أطلق ليقينك العنان
الشيخ كمال خطيب
يوم الأرض
يوم السبت 30/آذار هو ذكرى يوم الأرض الثامنة والأربعين بالتقويم الميلادي وفق المفكرة الوطنية. ويوم غد السبت 20 رمضان هو ذكرى فتح مكة بالتقويم الهجري وفق المفكرة الدينية. وإذا كان هناك من يظن بوجود تعارض وتناقض بين المفكرة الوطنية وبين المفكرة الدينية، وإذا كان هناك من يعتقد أن كل من يرفع راية الوطنية فلا بد أنه حتمًا منسلخ من الانتماء الديني، وأن من ينتمي للعقيدة والهوية الدينية فإنه لا ينشغل بالقضية الوطنية الضيقة، فخطأ أحدهما لا يقلّ عن الآخر.
ويأتي تأكيد خطأ هؤلاء وأولئك من العبارة التي قالها النبي ﷺ يوم خرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة وقد وقف على أطراف مكة والتفت إليها حزينًا باكيًا يقول: “والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”. إنها الأرض إذن يومها وفي العام 1976 واليوم وفي كل يوم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وكما أن أحداث يوم الأرض التي وقعت في العام 1976 هنا في الداخل الفلسطيني بعد قرار حكومة إسرائيل برئاسة اسحاق رابين بمصادرة آلاف الدونمات من أراضي أبناء شعبنا، وكان رفض واعتراض أبناء شعبنا الذي قوبل بالرصاص والنار نتج عن ذلك استشهاد ستة من أبناء شعبنا هم الشهيدة خديجة شواهنة، والشهيدان خضر خلايلة ورجا أبو ريا من سخنين، والشهيد خير ياسين من عرابة، والشهيد محسن طه ابن قرية كفر كنا، والشهيد رأفت الزهيري ابن مخيم نور شمس قرب طولكرم والذي استشهد في مدينة الطيبة.
لقد هُجّر قريبًا من مليون من أبناء شعبنا في العام 1948 يوم أوقعت العصابات الصهيونية النكبة بشعبنا ودمروا 539 قرية ومدينة. تمامًا مثلما يفعلون اليوم بغزة مع العلم أن 70% من سكان غزه هم من اللاجئين الفلسطينيين الذين دُمرت قراهم ومدنهم وهُجروا في نكبة 1948 إلى غزة من مناطق يافا والرملة وعسقلان وإسدود وبئر السبع، فظنت المؤسسة الإسرائيلية أن من بقي من أبناء شعبنا وعددهم لا يتجاوز 154,000 فلسطيني، فإن هؤلاء سرعان ما سيذوبون وينسلخون من هويتهم الدينية والقومية والوطنية ليكون يوم الأرض عام 1976 هو المحطة الفارقة والدليل القاطع لفشل رهانهم. وليس أنه تمسّك من بقوا من أبناء شعبنا بالأرض والوطن، وإنما هو أمل وعمل من هُجروا بالعودة إلى الوطن وإن طال الزمان.
يوم فتح مكة
أخرج النبي ﷺ من بلده وأرضه ووطنه، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} آية 30 سورة الأنفال، ومع الهجرة والبعد عن الأرض والوطن، إلا أنه كان الوعد القاطع من الله تعالى بالعودة والرجوع إلى الأرض والوطن {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ} آية 85 سورة القصص ومعاد هي مكة، أي أن الله سبحانه سيردك وسترجع إليها.
صحيح أن بداية مشروع العودة إلى مكة قد بدأ في العام الثامن للهجرة برؤيا رآها النبي ﷺ في المنام بأنه سيذهب إلى مكة وأنه يطوف بالكعبة المشرفة في المسجد الحرام. ولأن رؤيا الأنبياء وحي وحقّ فقد أمر النبي ﷺ أصحابه بالاستعداد للخروج إلى مكة، فخرجوا وكان عددهم 1400 ومعهم الهدي، وليس معهم إلا السيوف في إشارة إلى أنهم غير ذاهبين للقتال.
ومع أن قريشًا كانت لا تصد أحدًا من العرب ولا تمنعه من زيارة البيت الحرام حتى أن الرجل كان يلقى قاتل أبيه في البيت الحرام فلا يعتدي عليه تعظيمًا لحرمة البيت الحرام، إلا أن قريشًا خالفت ما كانت عليه فصدّت رسول الله ﷺ وأصحابه ثم كانت المفاوضات التي أفضت إلى صلح الحديبية والتي نصّت على رجوع المسلمين من حيث أتوا وأن يعودوا في السنة القادمة وغير ذلك من بنود الصلح حيث لا مجال لتفصيلها، ففي كتب السيرة ما يروي ظمأ الباحث عن هذه التفاصيل.
لم تمض سوى فترة قصيرة، وإذا بقريش وحلفائها من بني بكر يغيرون على بني خزاعة الذين كان بينهم حلف مع رسول الله ﷺ، وكان هذا يعني نقضًا للصلح من طرف قريش، فأمر النبي ﷺ المسلمين بالتجهز والاستعداد للتوجه إلى مكة. وإذا كان رسول الله ﷺ قبل سنة قد خرج ب 1400 مسلم ليس للقتال، فها هو يخرج بعشرة آلاف مقاتل في إشارة واضحة إلى تغيير موازين القوى.
أطلق العنان
أطلق لخيالك العنان ليسرح ويطوف في سماء مكة ليقف على قريش تعلن عن جائزة هي مائة ناقة حمراء لمن يأتي بمحمد ﷺ حيًا أو ميتًا بعد صدمتها من خروج رسول الله مهاجرًا وفشلها في اعتقاله أو قتله وليس معه إلا أبو بكر الصديق، وإذا بقريش إياها وقد علمت بمسير رسول الله ﷺ إليها ومعه عشرة آلاف مقاتل، وإذا بها تستبق ما سيحلّ بها بإرسال أبي سفيان إلى المدينة للتفاوض هناك بل للتوسل لثني رسول الله عن مسيره نحو مكة.
أطلق لخيالك العنان ليطوف فوق الطريق من المدينة إلى مكة، وهذا الطريق الذي سلكه رسول الله ﷺ قبل ثماني سنوات لكن بالاتجاه المعاكس، يمشي ليلًا ويختبئ نهارًا حتى لا يراه فرسان قريش، وإذا بيوم العاشر من رمضان يجعل هذا الطريق يعج بجيش قوامه عشرة آلاف ترفرف فيه رايات القبائل منها يتشكل جيش يملأ عنان السماء بالتكبير، على ميمنته خالد بن الوليد وعلى ميسرته الزبير بن العوام وقائد المشاة أبو عبيدة وحامل لواء الأنصار سعد بن عبادة رضي الله عنهم.
أطلق لخيالك العنان لتجعله يستحضر مشهد منادي رسول الله ﷺ على أبواب مكة ينادي: يا معشر قريش من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن. وما أن وقع الصوت على الآذان وإذا بطرقات مكة قد اختفى منها الفرسان الصناديد كانوا يستعدون للمواجهة، وإذا بهم يبحثون عن خيار من تلك الخيارات فيه يكون الواحد منهم آمنا، إما بيته وإما بيت أبي سفيان وإما البيت الحرام.
أطلق لخيالك العنان لتستحضر طيف رسول الله ﷺ وحوله المهاجرون والأنصار وقد دخل المسجد الحرام وأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت وبيده قوس وحول الكعبة 360 صنمًا، فجعل ﷺ يطعن كل صنم بالقوس وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} آية 81 سورة الإسراء. {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} آية 49 سورة سبأ، وإذا بالأصنام تتساقط على وجوهها ولتتحول إلى شظايا تتناثر في كل ناحية وهي التي كانت قبل لحظات ينحني بين يديها الرجال ركعًا وسجدًا ويقدمون لها القرابين.
أطلق لخيالك العنان لتستحضر طيف رسول الله ﷺ يدخل إلى الكعبة المشرفة ومعه بلال بن رباح وأسامة بن زيد، ففتح دفتيّ الباب واقفًا وأمامه جموع قريش وقد اصطفوا صفوفًا وكلهم آذان صاغية تترقب ما سينطق به فم الحبيب، هو على باب الكعبة وهم تحته ثم قال: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب. يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، يا معشر قريش ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
أطلق لخيالك العنان لتستحضر مشهد يوم حان وقت الصلاة أول مرة، وإذا برسول الله ﷺ يأمر بلالًا أن يصعد إلى ظهر الكعبة ليؤذن فتضج جنبات المسجد الحرام بل جبال مكة ووديانها بنداء التوحيد الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله. من هذا الذي على ظهر الكعبة، إنه بلال العبد الحبشي الذي وُضعت الحجارة على ظهره وهو يتلظى تحت حر الشمس وسياط أمية بن خلف تلهب ظهره وهو يقول: “أحد أحد الله أحد”، حتى أن كبراء قريش وصناديدها من شدة ذهولهم من المشهد الذي لم يتوقعوه في أسوأ كوابيسهم، فإن أحدهم هو “عتاب بن أسيد” قد قال: “الحمد لله أن أبي أسيدًا قد مات قبل أن يرى ما يغيظه”.
أطلق لخيالك العنان لتستحضر مشهد الحبيب ﷺ بجانب الصفا وزعماء قريش وقادتها يقفون بالطابور يقدمهم عمر رضي الله عنه الواحد تلو الآخر ليبايعوا رسول الله ﷺ على الإسلام، فلما انتهى الرجال جاء دور النساء، فدخلت عليه هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وكانت خائفة وهي تعلم ما فعلت بعمه حمزة رضي الله عنه يوم أحد، فعرفها النبي ﷺ وقال: “إنك لهند؟ قالت: نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك يا رسول الله.
أطلق لخيالك العنان لتستحضر ما كان بالأمس القريب رؤيا رآها رسول الله ﷺ وإذا بها تصبح حقيقة وواقعًا {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} آية 27 سورة الفتح. فإذا كانت الرؤيا قد تحققت فكيف لا يتحقق وعد حقّ قاطع وعده الله سبحانه لما قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} آية 28 سورة الفتح. {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ*وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} آية 4-6 سورة الروم. فأطلق لخيالك بل أطلق ليقينك العنان.
إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا
ونحن بين يدي ذكرى يوم الأرض وذكرى فتح مكة أشرف وأطهر أرض، وبين يدي الواقع الصعب الذي يمر به شعبنا عمومًا وأهلنا في غزة خصوصًا، وحال المسجد الأقصى المبارك بما هو عليه من مخططات سوداء تستهدفه.
بين يدي هذه الذكريات وهذا الحال فلا بد لنا من جرعات أمل بل يقين بإذن الله تعالى بأن هذا الحال لن يدوم، وأن مآل أمرنا وأمر أمتنا إلى خير وبشريات وفرج.
فلقد تحدث الله سبحانه مطلع سورة الفتح عن جائزتين وبشارتين {إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} آية 1 سورة الفتح. {لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} آية 2 سورة الفتح.
فإذا كانت الجائزة الأولى هي البشارة بفتح مكة، فإن الثانية هي البشارة بالمغفرة من الله تعالى.
والمسلم في هذا الزمان، فإن ما يجب أن يشغل نفسه به هو ليس هل ستقوم دولة الإسلام، فإنها والله ستقوم، أو هل المستقبل للإسلام أم لأعدائه، فالمستقبل يقينًا هو للإسلام. وإنما الذي يجب أن يشغل به نفسه هو مدى ثباته على طريق الحق ومدى رضا الله تعالى عنه ومدى سعيه وبذله من أجل أن يغفر الله له ذنوبه.
فعلى الإسلام ومستقبله يجب أن لا نخاف، لأن الله تعالى قد ضمن ذلك ووعده سيتحقق، وإنما الخوف كل الخوف هو على أنفسنا خشية أن تزلّ بنا القدم أو تزيغ بنا الأبصار أو أن نكون لا سمح الله في صف ومعسكر أعداء الإسلام.
فأطلقوا العنان ليس لخيالكم، بل ليقينكم لمشاهد سنعيشها بإذن الله كمشاهد فتح مكة فيها سنقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} آية 81 سورة الإسراء. كونوا على يقين بأن الفتح سيكون، أو أمر من عنده سبحانه لا نعرف ماهيته {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} آية 52 سورة المائدة.
وإذا كان عتاب أسيد وهو يرى مشهد الفتح المبارك وزحوف الحق تتقدم نحو مكة والمسجد الحرام مما لم يكن يحلم به في أسوأ كوابيسه حيث قال: الحمد لله أن أبي أسيدًا قد مات قبل أن يرى ما يغيظه، فوالله ثم والله إن كثيرين سيقولون مثل قوله وسيعضون أصابع الندم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} آية 27 سورة الفرقان.
وإذا كان أعداء الإسلام يعتقدون أن الأمة قد ماتت وأن الإسلام قد شيّع إلى مثواه الأخير، وأن هذه المشاهد لن تُرى ولن تتحقق ولن تكون، وإذا كان المتشائمون من المسلمين يعتقدون أن هذا المشهد حتى وإن تحقق فإنه بعيد، فإننا والله نراه قريبًا بل ما أقربه {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} آية 6 سورة المعارج.
لا عزاء للمحبطين والمتشائمين واليائسين.
ارفع رأسك فأنت مسلم.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.