المواطن العربي هو المواطن العربي
الشيخ رائد صلاح
المواطن العربي في العالم العربي هو المواطن العربي نفسه قبل نكبة فلسطين وبعدها، وهو المواطن العربي نفسه بالأمس واليوم ولا أدري ماذا سيكون حاله غدًا، وهو المواطن العربي نفسه عام 1948 وعام 1967 وعام 1973 وعام 1982 وعام 2006 وعام 2024، وكأن المواطن العربي الذي وُلد عام 1924 هو المواطن العربي نفسه الذي وُلد عام 2024، فهو المواطن العربي الذي كان ولا يزال مسحوقًا في العالم العربي، وهو الذي كانت ولا تزال تطارده المخابرات العربية وتُحصي عليه أنفاسه وتُحصي عليه كل شاردة وواردة، حتى أقنعته أن الجدار له أذن، وهو الذي كانت ولا تزال لقمة طعامه مغموسة بالأوجاع وواجب الخنوع للحاكم الفرعوني النمرودي المُلهم الذي لا يجوز أن يُقال له لا فيما يأمر وينهى.
وهو المواطن العربي الذي أكلت من لحمه فئران السجون العربية وجرذان الزنازين العربية، ولعقت من دمه وعظمه قيود القهر المستوردة من بلاد العم سام وسائر أرض بني الأصفر وتوابعهم، وهو المواطن العربي الذي لا تزال ترى فيه غالبية هذه الأنظمة أنه أرخص ما تملك، وهو الذي لا يزال منزوع الإرادة، ولا يجوز له أن يختار حاكمه ولا نظام الحكم الذي يرعاه، وهو الذي لا يزال منزوع الأهلية، وحرام عليه أن يُسهم في حاضر وطنه العربي ومستقبله إلا وفق توجيهات خانقة من الوالي المُعظم والويل له إن خرج عنها.
وهو الذي لا يزال منزوع الحرية الكريمة إلا إذا اختار لنفسه الوهن الأخلاقي فهذا ما يُسعد الوالي المُعظم، وهذا ما يجعل هذا المواطن العربي المسكين تقدميًا وثقة لدى غالبية بطانة المُستبدين في الوطن العربي، وهذا ما قد يؤهل هذا المواطن العربي المسكين إذا تعثر أن يكون من بطانة الوالي المُعظم تُجبى إليه ثمرات كل شيء ويتحكم بالأعناق والأرزاق والأخلاق، وهكذا كان هذا المواطن العربي مُكمم الفم ومعقود اللسان ومشلول اليد إلا إذا نطق وصاح: عاش والينا المعظم!!، أو حمل كرباجًا وإنهال به على الأحرار المُطاردين المقموعين من الوطن العربي حفاظًا على عرش الوالي المُعظم، وإحباطًا لخطر أي انقلاب على هذا العرش الشديد، حتى لا يضيع الأمن العربي!!، والاستقلال العربي!!، والمارد العربي!!
وهكذا لا تزال مأساة جدلية العلاقة بين المواطن العربي وغالبية الأنظمة العربية منذ اللحظات الأولى لميلاد الحكم الجبري في الوطن العربي بعد أن التقت يد خفية من متدخل خارجي أجنبي مع متواطئ داخلي عربي وكادت كيدها وأقامت الليالي الملاح بعد الإعلان المؤقت عن إسقاط الخلافة الإسلامية عام 1924، وعلى أثر ذاك الإعلان وُلِد الحكم الجبري العربي ولا يزال حتى الآن، وأظن أنه يعيش آخر أيامه، ومنذ ذاك الحكم الجبري العربي أصبح الوطن العربي كالأيتام على موائد اللئام، وتصدعت شخصية المواطن العربي، وأصبح موجودًا بشخصه معدومًا بدوره في الوطن العربي، وأصبح حاضر الوطن العربي هو حاضر حُكام وليس حاضر شعوب، وتحولت الشعوب العربية إلى مواد استهلاكية لدى غالب الحُكام العرب، وغابت مصالح الشعوب العربية وأصبحت تُقاس بقدر ما يتمتع به الحُكام العرب وحاشياتهم من مصالح شخصية، وغاب دور الشعوب العربية، وغابت كلمتها، وغابت قدرتها على التأثير داخليًا أو خارجيًا، وهكذا غابت في العالم العربي حرية الكلمة وحرية الرأي وحرية الإعلام وحرية النقد والتصحيح وفي المُقابل نما الاستبداد السياسي واحتكر حُكام العرب القيادة والسُلطة والقرار والرأي الصواب، فما رأوه حسنًا فهو الحسن، وما رأوه قبيحًا فهو القبيح، ويجب على الشعوب العرب أن تتوافق مع هذا الحال وإلا….
لدرجة أن خالد الحسن القيادي الفلسطيني يقول في رسالة (من يحكُم الآخر أمريكا أم إسرائيل): ((حتى وصل الأمر في بعض البلدان العربية إلى عدم السماح للجماهير بتأييد النظام إلا بموافقة النظام، أي أن التعبير الجماهيري المعنوي لتأييد النظام أصبح ممنوعًا في العالم العربي، خشية أن تعتاد الجماهير على حُرية التعبير عن آرائها)).
وكأني بخالد الحسن كان يتحدث سلفًا عن الربيع العربي في هذه الرسالة التي صدرت عام 1981، عندما قال فيها: ((إن هذا النوع من الاستبداد الفكري والسياسي والاقتصادي والقيادي الضاغط لدرجة الخنق، يُنتج بالضرورة هذا الضجر القائم، فضلًا عما ينتج عنه حكمًا من تناقضات ذات طبيعة تفجيرية لا يُمكن إذا استمرت إلا أن تنتهي بالثورة الشعبية))، ولا يزال الكثير منا يسأل مُتحسرًا: لماذا لا يزال المواطن العربي هو المواطن العربي، ولماذا لا تزال الأنظمة العربية تُمارس هذا الاستبداد؟!!، وجوابًا على ذلك يقول خالد الحسن في الرسالة نفسها: ((إن الاستبداد في القيادة هو نتيجة حتمية ولازمة للعجز الفكري والإحساس الداخلي بالعجز والهزيمة أيضًا، إن الواثق من فكره لا يَستبد بالمُفكرين، ولا يحتكر أفكاره ويفرضها، والواثق بعلمه لا يستبد بالعلماء، والواثق بجماهير أمته وحبها له لا يضطهد حرية الجماهير في حركتها الفكرية والمجتمعية بشكل عام. إنه العاجز من الداخل، المهزوم من الداخل، الذي يلجأ إلى الاستبداد لتثبيت موقعه وسلطانه، وبذلك تتوالى سلسلة من التردي والارتباك بفعل غياب الحرية وسيطرة الاستبداد)).
وإذا استمرت الجماهير العربية في الوطن العربي منزوعة الحرية، ومحرومة من حق تقرير مصيرها، ومن حقها في اختيار حاكمها ونظام الحكم الذي ترضاه لنفسها، كما هي عليه الآن ونحن في مطلع عام 2024م، فستبقى هذه الجماهير العربية في الوطن العربي مكبوتة تحس بتبعية قد تتحول إلى استمراء إذا أخذت وقتًا طويلًا، وبالتالي تُصبح هذه الأنظمة عاجزة عن أن تُنفذ أي شيء خارج وداخل حدودها فيما يتصل بمصالح شعوبها، لأن هذه الأنظمة العربية اليوم لا تملك القوة الشعبية التي تقف وراءها لتحقيق ما تريد، فالاستبداد هو عدو التقدم، وهو عدو المُستبدين إذا اعتبروا!!، وقيل قديمًا: إن مجتمع العبيد لا يُمكن أن ينتصر، ونحن في عصر لا يُمكن لأي نظام أن يُواجه تحدياته بدون شعبه، فقد انتهى عهد المرتزقة!!، ولذلك كم هو مسكين المواطن العربي في الوطن العربي، ويُخطئ من يطلب من هذا المواطن العربي ما هو فاقده، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وما دام المواطن العربي ممنوعًا من نصرة نفسه فكيف ننتظر منه أن يُساند القضية الفلسطينية بعامة وقضية القدس والمسجد الأقصى المُباركين بخاصة، وما دام المواطن العربي محرومًا من حق تقرير مصيره، فكيف ننتظر منه أن يدعم حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وما دام المواطن العربي محرومًا من الحرية، فكيف ننتظر منه أن يؤثر في مطلب الحرية للشعب الفلسطيني، وهكذا بات المواطن العربي اليوم يُعاني مما يُعاني منه الشعب الفلسطيني، ولكن بيد داخلية، فهو المواطن العربي الذي يعيش اليوم في وطن عربي مُحتل بيد عربية، ومُستباح الدماء والأعراض والأرزاق والقيم بيد عربية، ولا يملك إلا القيام بمظاهرات مرصودة من قبل الحاكم العربي، وتصب في مصلحة الحاكم العربي، بعيدًا عن الكارثة الإنسانية في غزة.