كل مرٍ سيمُر
ليلى غليون
يقابل الواحد منا في مشوار حياته -طال هذا المشوار أم قصر- العديد من الحوادث منها المؤلمة ومها المفرحة، منها ما يتمنى لو تشطب وتمحى من ذاكرة أيامه وكتاب ماضيه، فلا يبقى منها أثر، ومنها ما يتمنى لو تبقى منقوشة على جدران قلبه تدغدغ أوتاره لتظل تعزف ألحان سيمفونية جميلة تُبقي روحه محلقة في عوالم السعادة. كما يقابل كل منا في مشواره هذا الذي تسيره مقادير الخالق سبحانه، العديد من الناس على اختلافهم، منهم من يمضي لحال سبيله دون أن يكون له أثر أو بصمة في حياته، ومنهم من يتمنى لو لم يلتق به ولم تره عيناه، ومنهم من حجز مكانًا في قلبه ومساحة واسعة في حياته ليصبح جزء لا ينفك عنها.
وكل منا يكاد يكون محصورًا ضمن جدران هذه الحالات الثلاث، ولكن وفي غمرة هذا الحصار قد لا نحسب أن هناك شيئًا اسمه الفراق أو الوداع بانتظارنا (لا أعني فراق الموت فكل نفس ذائقة الموت) بل ما أعنيه فراقنا ووداعنا لكل ما نحن فيه وفي أية حالة كنا عليها، فتقلبات الحياة سنة ما دامت الحياة مستمرة، بل هي الحياة مليئة بالمسرات وبالمطبات، نتعثر ثم ننهض، ننجح ثم نفشل، وحقائب العمر مليئة بذكريات جميلة، وخيبات، وآمال متجددة، هكذا تمضي بنا قافلة الأيام لا شيء يدوم على ما هو عليه، والدهر قلَاب ودولاب لا يصفو على حال، والإنسان ما دام فيه عرق ينبض فلا يمكن أن يستمر على وتيرة واحدة ، فهو متنقل بين محطات مختلفة، بين الفرح والحزن، بين الضيق والفرج، بين الحلو والمر، بين منغصات ومسرات، ومتقلب بين السعادة والشقاء، ومتغير حاله بين الصحة والمرض، فدوام الحال من المحال والأيام دول، والدول أيام، ولكن يبقى القلب المتعلق بالله تعالى، صاحبه لا يبرح محطة انتظار الفرج مهما طالت أيام الانتظار، يرجو كاشف الهم وفارج الهم مجيب دعوة المضطرين، يتعكز على الصبر الجميل بلا شكوى ولا تذمر، يحدوه الأمل والرجاء وهو يتقرب إلى الله تعالى بأفضل عبادة، وأفضل العبادة هي انتظار الفرج كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يأس والله يُدعى، ولا قنوط والله يُرجى ولا إحباط والله يُسأل.
إن أتاك اليوم ضر أو أذاب الحلق مر
أو نأى عنك عزيز واحتوى جنبيك عسر
علل النفس بصبر فعسى أن يكتب أجر
قل لها يا نفس صبرا بعد هذا العسر يسر
هذه الأيام تمضي هل تراها تستقر
فالمؤمن ينتظر الفرج بصبر جميل وبنفس متوشحة بالراحة والسكون، لأن قلبه متعلق بحبل متين لا ينقطع، متعلق بمن وسعت رحمته كل شيء ، يملأه اليقين بأن عند كل دمعة ينتظره المطر، وعند كل عثرة تفتح له الأبواب، وعند كل ألم عاقبته أمل وشفاء، كان ابن شبرمة إذا نزلت به شدة يقول: سحابة ثم تنقشع.
فها هي الأحداث والمصائب تترى على الأمة الاسلامية كزخات المطر من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، تراها تغلي كالمرجل.. خطوب.. ويلات.. قتل.. بطش.. دماء.. تنكيل تربص من كل الجهات.. كيد.. مكر بالليل والنهار.. أحداث تزلزل الأرض تحت أقدام المؤمنين حتى لكأن حناجرهم اختنقت وهي تصرخ من شدة الألم وهي تقول: “متى نصر الله”.
إذا اشتملت على الياس القلوب وضاقت ما به الصدر الرحيب
أتاك على قنوط منك غوث يمن به اللطيف المستجيب
نعم، قد تطول المحنة وتشتد، وقد يطول زمن الابتلاء ويمتد، لنرى العديد وقد استبطأوا الفرج وخيمة من اليأس تظلل قلويهم مع كثرة دعائهم، وقد حسبوا لطول الليل أن لا صباح له، ولشدة الضيق أن لا انفراج له، ولكنها البشرى بإذن الله بأن اشتدادها وطول زمنها يبشر بزوالها، وأن الفرج قد حان وبات قاب قوسين أو أدنى، وأن المسافة التي تفصلنا عنها باتت قصيرة جدًا، هكذا علمنا القرآن.
قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه عام الرمادة: (اشتد القحط وقنط الناس، فقال: الآن يُمطرون) وقرأ: “وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد”. الشورى 28.
وعندما أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطائف ونالوا منه من ألوان الأذى ما نالوا وكان معه الصحابي زيد بن حارثة رضي الله عنه قال زيد: يا رسول الله كيف تدخل على قريش وقد أخرجوك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: “يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه”.
ننتظر الفرج.. نعم.. بحسن ظننا بالله الذي لا ينقطع، ننتظر الفرج.. نعم.. بالرجوع والإنابة إلى من بيده ملكوت كل شيء، ننتظر الفرج نعم.. بكثرة الاستغفار والانكسار والذل والدعاء بالثقة الكاملة في مدبر الأمور كلها مع اليقين المطلق بقدوم الفرج وانتظاره بمحطات الصبر والثبات والرجاء مع إدارة الأمور بشكل جيد وأخذ كل الأسباب المادية، فإنها والله لساعات قليلة في علم الله تعالى وسيأتي غوثه وفرجه بإذنه، فوعد الله ناجز لا محالة، وأن المستقبل لهذا الدين لا ريب فيه، وسيصحح التاريخ مساره ويعود له إشراقه الذي سيغير وجه الدنيا بإذن الله.
كل مر سيمر ليس للدنيا مقر
والذي أنت عليه كله خير وشر
سوف يبنيك حطام وترى حالا يسر
فثق بالله مهما طال في دربك عسر
نعم كل مر وكل ضر وكل شر بإذن الله سوف يمر، وسيأتينا المولى بفضله وكرمه بما يفرح ويسر.