“التجنيد الإلزامي”.. عنوان لأزمة إسرائيلية داخلية
ساهر غزاوي
بدأت الارتدادات العميقة للحرب الإسرائيلية على غزة تطفو على سطح المشهد الإسرائيلي الداخلي بشكل ظاهر أكثر من أي وقت مضى، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الداخلي وحتى على الاستراتيجية العسكرية، وإن كانت التأثيرات الأعمق لم تحدث بعد، إلا أن أزمة التجنيد الإلزامي وجدليتها لا تزال تتنامى في المشهد الإسرائيلي الداخلي حتى وصلت إلى درجة أن يلوّح الحاخام الشرقي الأكبر لإسرائيل، يتسحاق يوسف، بهجرة جماعية لليهود الحريديين من البلاد إذا ما تم إجبارهم على التجند في صفوف الجيش الإسرائيلي. فقد قال الحاخام يوسف خلال حلقة لتعليم التوراة، إن “سبط لاوي (سبط الكهنة والعلماء) معفي من الخدمة في الجيش، ولا يتم تجنيدهم تحت أي ظرف مهما كان. إذا أجبرونا على الذهاب إلى الجيش، سنسافر جميعًا إلى الخارج، سنشتري تذاكر ونغادر”.
لقد ساهم هذا التصريح في ازدياد التصدع السياسي والاجتماعي على مستوى الداخل الإسرائيلي، وأحدث ضجة عارمة وخلافًا داخل الحكومة وصدامًا مع الأحزاب الدينية التي قالت إنها لن تدعم الحكومة إذا تقرر تجنيد أفرادها، وانقسامًا في الرأي العام الإسرائيلي. فمنهم من وصف هذه التصريحات بـ “وصمة العار” ومنهم من وصفها بـ “إساءة أخلاقية للدولة والمجتمع الإسرائيلي”، ومنهم من رأى أن تصريحات الحاخام يتسحاق يوسف الرافضة لقانون التجنيد الإلزامي ستتسبب بـ “الإضرار بأمن إسرائيل”.
في منتصف شهر شباط الماضي، قدم الوزيران من حزب “المعسكر الوطني”، بيني غانتس وغادي آيزنكوت، خطتهما لتجنيد الحريديين في الجيش الإسرائيلي، واشترطا دعمهما لجهود الحكومة لتمديد فترة الخدمة العسكرية، بقبول خطتهما التي تسعى إلى زيادة عدد الإسرائيليين الذين تم تجنيدهم تدريجيا على مدار السنوات الـ10 المقبلة. مع الإشارة إلى أن المحكمة العليا الإسرائيلية ألغت في العام 2017، قانون التجنيد الذي كان قد سُن في 2015 ويعفي الحريديين من الخدمة العسكرية، معتبرة أنه يمس بالمساواة، ومنذ ذلك الحين حصل الكنيست على أكثر من تمديد لإعفاء الحريديم لكن دون التوصل إلى صيغة قانون متفق عليه.
ومؤخرًا، عاد إلى الواجهة مشروع قانون التجنيد الإلزامي الذي يُعد من أكثر المواضيع حساسية وإثارة للتوتر بإسرائيل، إذ يعارض العلمانيون إعفاء اليهود المتدينين “الحريديم” من التجنيد. ويعود تحريك هذا المشروع إلى ما حصل في الحرب الإسرائيلية على غزة، حيث جرى فيها تجنيد أكبر عدد من جنود الخدمة الاحتياطية في تاريخ إسرائيل، ووفق تفسيرات هذا القانون، فإنّ الحرب على غزة أحدثت نقصًا ملحوظًا في عدد الضباط والجنود المقاتلين من جيش الاحتياط، فبات الجيش يتضاءل في ظل عدم التجنيد، ويشكل خطرًا على إسرائيل، يأتي ذلك فيما يتعين على الحكومة سن قانون للتجنيد، في حين يطالب “الحريديم” الشركاء في حكومة بنيامين نتنياهو بإعفاء طلاب المعاهد التوراتية وخريجي المؤسسات التعليمية الدينية من التجنيد الإلزامي في الجيش، الأمر الذي ترفضه الأحزاب العلمانية، ومن بينها “المعسكر الوطني”، الذي انضم لحكومة الطوارئ في أعقاب اندلاع الحرب على غزة.
ووفقًا لتفسيرات الداعمين لهذا القانون، فإنه “دون أعباء متساوية فالاستقرار الأمني لدولة “إسرائيل” في خطر، والحرب الطويلة في غزة تخبرنا عن الحاجة الماسة لتوسيع دوائر التجنيد لتشمل جميع أنحاء إسرائيل”. لذا فإنّ جدلية التجنيد الإلزامي أصبحت عنوان أزمة جديدة لمجتمعًا إسرائيليًا متعدد التصدعات، سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا، وبالتالي ستكون أول انعكاساتها المتوقعة أن تتفكك حكومة الطوارئ بخروج حزب المعسكر الرسمي منها، وأن تجري انتخابات جديدة بعد حركة احتجاج متصاعدة ضدّ الحكومة الحالية برئاسة نتنياهو، وأن تفوز المعارضة في الانتخابات، وأن يتم تشكيل حكومة برئاسة بني غانتس، أمّا تداعيات هذه الأزمة المستقبلية فستزيد من الأزمات السياسية الداخلية والاقتصادية ومن التآكل الإسرائيلي الداخلي الذي سيعرض المشروع الصهيوني لاختبار وجودي في المنطقة.
بَيْدَ أن الحديث عن الحرب الإسرائيلية على غزة وتداعياتها وإسقاطاتها على المشهد الإسرائيلي، لا يمكنه أن يغفلنا عن الأوضاع الإنسانية الكارثية غير مسبوقة في قطاع غزة إزاء الحرب الجارية والتي تدخل شهرها السادس، وعن عدد شهداء وضحايا هذه الحرب من المدنيين، معظمهم أطفال ونساء، قد تجاوز الـ 30 ألفًا وعدد المصابين قد تجاوز الـ 70 ألفًا، فضلًا عن الدمار الهائل في البنية التحتية في ظل شح شديد في إمدادات الغذاء والماء والدواء والوقود، واتساع المجاعة، وتهديدها حياة مئات آلاف الفلسطينيين في القطاع المحاصر، خاصة مع تسجيل مزيد من الوفيات جراء سوء التغذية وفقدان المواد الغذائية. بالإضافة إلى حرمان الناس من المعونة الغذائية، بل حتى ارتكاب مجزرة مروعة بحق أكثر من 100 شخص كانوا بانتظار الحصول على معونات غذائية، وما “مجزرة الطحين” عنا ببعيد!!
إنّ الحديث عن الأوضاع الإنسانية الكارثية في غزة جزء مهم وأساسي من تداعيات هذه الحرب وغير منفصل عنها البتة، ويتطلب من الجميع دون استثناء، التحرك العاجل والسعي وبذل الجهود لإدخال المساعدات الإغاثية العاجلة لتقديم المساعدات الإنسانية لغزة. خاصة وأن أهالي غزة قد استقبلوا شهر رمضان المبارك تحت القصف والتجويع واستمرار محاولات التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحقهم بدمار واسع النطاق في القطاع المحاصر برًا وبحرًا وجوًا منذ ما يزيد عن 17 عامًا.