شهر رمضان بين غزة المليحة ومصر الفضيحة
الشيخ كمال خطيب
مثل استقبال الأم لولدها وقد غاب عنها طويلًا ثم رجع ففتحت ذراعيها وضمته إلى حضنها. ومثل استقبال الحبيبة لحبيبها ولو استطاعت لشقت قلبها واحتجزته فيه فلا يغيب عنها بعد اليوم أبدًا، ومثل العطشان إذا بلل الماء شفتيه، ومثل الجائع إذا وقع الطعام بين يديه، ومثل فرحة واستقبال هؤلاء وأكثر، فإنها فرحة المسلم باستقبال شهر رمضان المبارك. وفي وصف هذه الفرحة كان النبي ﷺ إذا جاء رمضان يقول: “قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، يفتح الله فيه أبواب الجنة ويغلق فيه أبواب الجحيم وتغلّ فيه الشياطين. فيه ليلة خير من ألف شهر من حُرم خيرها فقد حرم”.
مرحبًا أهلًا وسهلًا بالصيام يا حبيبًا زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام
فاغفر اللهم منا ذنبنا ثم زدنا من عطاياك الجسام
وكيف لا تكون فرحة المسلم بقدوم رمضان وهو الذي يعلم عظيم ما أعد الله فيه لعباده الصائمين، ولو لم يكن من العطاء الرباني إلا قول النبي ﷺ: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”. وإلا قول النبي ﷺ: “يقول الله تبارك وتعالى كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجلي”. فأهلًا وسهلًا ومرحبًا في رمضان.
مدرسة الثلاثين يومًا
يقول أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي في مقالته التي بعنوان” فلسفة الصيام” في كتابه -وحي القلم: ” فرمضان على الحقيقة ليس شهرًا من الأشهر، بل هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في دورانها، ولهو والله أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجوّ الذي من طبيعته السُحب والغيث، ومن عمله إمداد الطبيعة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته ان يكسبها الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.
وعجيب جدًا أن هذا الشهر الذي يدّخر فيه الجسم من قواه المعنوية، فيودعها مصرف روحانيته ليجد منها عند الشدائد مدد العبرة والثبات والعزم والجلد والخشونة. عجيب جدًا أن هذا الشهر الاقتصادي هو من أيام السنة كفائدة 8.3% (باعتبار أن نسبة الشهر الواحد من بين اثني عشر شهرًا فإنها تساوي 8.3%)، فكأنه يسجل في أعصاب المؤمن حساب قوته وربحه فله في كل سنة زياده 8.3% من قوته المعنوية الروحانية.
وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدّخر هذه القوة وتوفرها لتستمدها عند الحاجة، وذلك هو سرّ أسلافنا الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى في مخازن العتاد والأسلحة والذخيرة”. وقد ختم الأستاذ الرافعي مقالته تلك بعبارة: “ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسمّاك مدرسة الثلاثين يومًا”.
إنها المخزون المعنوي والشحنة الإيمانية التي يودعها الصيام في رمضان في نفوس المسلمين، ذلك المخزون وتلك الشحنة والطاقة التي كانوا يدّخرونها لأيام الكرب والشدائد، فيقومون بالمهمات التي يعجزون عنها في غير رمضان، فلم يكن رمضان والصيام يورث فيهم الكسل والهبوط والضعف، وإنما كان يورث فيهم من العزيمة والإصرار ما جعل قائدهم يقول لقائد عدوّهم: “جئناكم برجال يحرصون على الموت كما تحرصون أنتم على الحياة، ولذلك فلا عجب أن يكون شهر رمضان هو الشهر الذي دارت فيه أشهر المعارك في الإسلام، وليكون رمضان هو موسم تأديب المتطاولين من أعداء الإسلام.
يا عفوّ عفوك
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟ قال: تقولين اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”. وعلى هدي رسول الله ﷺ في وصيته لعائشة رضي الله عنها فقد سار أصحاب رسول الله ﷺ والتابعون والأجيال التي من بعدهم، وسارت الأمة يومها واليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها على استحباب الإكثار من هذا الدعاء في ليلة القدر ليلة السابع والعشرين من رمضان.
لكن الرجل الصالح شيخ الإسلام سعيد بن اسماعيل فقد ذهب إلى أكثر من ذلك حيث كان في مجالسه في رمضان وغيرها يكثر من قول: “يا عفو عفوك في المحيا عفوك، وفي الممات عفوك، وفي القبر عفوك، وعند النشور عفوك، وعند تطاير الصحف عفوك، وعند ممر الصراط عفوك، وعند الميزان عفوك، وفي جميع الأحوال عفوك، يا عفو عفوك”. ولما توفيّ رآه في المنام صديق له فقال له: ما نفعك من أعمالك في الدنيا، فقال: قولي يا عفو عفوك.
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك ربي كما أمرت تضرعًا فإذا رددت يدي فمن يرحم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم.
مليحة أم فضيحة؟
منذ أسابيع والإعلام المصري يروج لمسلسلات رمضان الذي اعتادت وزارات الإعلام العربية عمومًا والمصرية والسورية وانضمت إليها السعودية، أن تحوله إلى شهر المسلسلات والأفلام.
وليس أنه شهر الصيام والقيام والقرآن، لكن اللافت في هذه المرة أن الإعلام المصري يروج لمسلسل سيعرض في شهر رمضان أسموه “مليحة” سيعرض في 15 حلقة، وتدور أحداثه حول قصة فتاة فلسطينية من قطاع غزة هاجرت مع جدّها إلى ليبيا بعد أن قُتل والداها إثر قصف إسرائيلي لبيتهم خلال أحداث انتفاضة الأقصى الثانية في العام 2000، وقد قرر الجدّ العودة إلى غزة بعد ثورات الربيع العربي مطلع العام 2011 والتي أدت إلى خلع طاغية ليبيا القذافي، بل وقتله.
وعند الحدود الليبية المصرية وحين تجد الفتاة مليحة نفسها بدون أوراق ثبوتية، عندها يقوم بطل الفيلم الضابط المصري الشاب “أدهم” بمساعدتها، لكن مشاعر تتحرك بينهما، ويترك المروّجون للمسلسل الإجابة عن السؤال هل ستعود مليحة إلى غزة أم أنها ستبقى في مصر؟ وما مستقبل المشاعر التي بُنيت بينها وبين الضابط المصري أدهم؟!
الجواب سيُعرف كما يقول المروّجون في “الأكشن الكبير الذي سيكون في المسلسل الذي سيُعرض في الماراثون الرمضاني المقبل 2024″، حيث يضيف المروّجون للمسلسل بأنه أعدّ لدعم القضية الفلسطينية. وهل القضية الفلسطينية يا قادة مصر وإعلامها بحاجة إلى أفلام ومسلسلات وتمثيل؟ أم أنها بحاجة إلى عمل وممارسة واقعية وحقيقية؟
وهل دعم غزة ومساندتها بحاجة إلى أكشن ومسلسل رمضاني؟ ألم تكتفوا بخمسة أشهر قبل رمضان والأكشن فيها لم يتوقف من مشاهد القصف والصواريخ والأشلاء والدماء والأطفال تحت الركام والتشريد والتجويع؟ أليست هذه من مشاهد الأكشن الحقيقية كان يتوجب أن تحرك المشاهد المصري والعربي، فهل سيحرّكه مسلسل رمضاني؟.
وهل الفتاة الغزية “الممثلة” تحتاج إلى الضابط المصري الشهم “بطل الفيلم” ليساعدها للخروج من ليبيا والعبور إلى مصر رغم فقدانها للأوراق الثبوتية، وعلى ما يبدو مرفق حملة الترويج المليئة بالإثارة، فلعل علاقة “حب” ستنشأ بين البطل والبطلة؟! أم أن مئات آلاف المليحات الغزيات الحقيقيات وليس الممثلات بحاجة وما زلن بانتظار الضابط المصري الشهم الذي تتحرك فيه مشاعر النخوة والغيرة، وليست مشاعر الحب والجنس، للقيام بواجبه ومساعدتهن على الحدود بين مصر وغزة وليس بين مصر وليبيا؟!.
إننا لا نطالب الضباط المصريين على معبر رفح بأي عمل بطولي لا سمح الله، ولكننا نطالبهم على الأقل بعدم ابتزاز واستغلال المرأة والشيخ والجريح من غزة الذين يريدون مغادرة معبر رفح إلى مصر للعلاج واضطرارهم لدفع مبلغ عشرة آلاف دولار لتسهيل عبورهم إلى مصر وفق تحقيقات وشهادات لمئات الغزيين والغزّيات اضطروا للاقتراض ولبيع كل ما يملكون لدفع المبالغ “رشوى” للضابط المصري “الشهم” على معبر رفح.
وهل المشاهد العربي بحاجة لمشاهدة مسلسل تجري أحداثه على المعبر بين ليبيا ومصر؟ ألا يكفي المشاهد المصري والعربي كل ما يراه على معبر رفح بين مصر وغزة حيث يغلق المعبر بإرادة سياسية مصرية ينفذها الضباط المصريون فلا يُسمح بإدخال الماء والغذاء والدواء لغزة إلا بإذن السيد الإسرائيلي.
إن غزة وأهلها بحاجة إلى إعلان مصري حقيقي وصادق، وإلى موقف مصري جريء، وإلى رئيس مصري شهم وغيور وإنسان يغيث حرائر غزة وليس إلى أفلام ومسلسلات وممثلين وأكشن في رمضان.
مصر لن تعرض مسلسل مليحة، مصر ورئيسها وجيشها وإعلامها وسياساتها ومواقفها هم فضيحة تجعل كل مصري حرّ شريف يخجل ويبرأ من هؤلاء، وليقول لهم تبًا لكم.
ما يجري في مصر كله مسلسل وفيلم كبير، لا بل إنه مسرح دمى حيث يؤدي دور البطل فيه الممثل الكبير عبد الفتاح السيسي والذي تحركه من وراء الكواليس الأجهزة السياسية والأمنية الإسرائيلية الأمريكية.
إن الحديث عن مصر الفضيحة هو الحديث عن الرئيس الإنقلابي الدموي ونظامه، وليس الحديث عن الشعب المصري الشقيق المقهور والمكلوم والذي نعلم مقدار شعوره بالعار وبالفضيحة من فعل السيسي وسياسته الغاشمة. الشعب المصري الذي لو أتيح لأبنائه لما ترددوا في نجدة وإغاثة إخوانهم وجيرانهم في قطاع غزة.
أفضل الصيام، ،صيام أهل غزة
يا حبيبي يا رسول الله صلى الله عليك وسلم وأنت الذي قلت لعبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه لما سألك عن أفضل الصيام فقلت له: “فصم يومًا وأفطر يومًا، فذلك صيام داوود عليه السلام وهو أفضل الصيام، فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبي ﷺ: لا أفضل من ذلك”، والمقصود في ذلك صيام التطوع.
فإذا كنت يا حبيبي يا رسول الله قد حببت صيام داوود وهو صيام يوم وإفطار اليوم الذي يليه، وإذا كنت بأبي أنت وأمي يا رسول الله قد نهيت عن صيام الوصال وهو أن يصوم المسلم يومين متواصلين وأكثر دون أن يفطر، فقلت: “إياكم والوصل، قالوا: إنك تواصل يا رسول الله، قال: إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني”.
فماذا عساك تقول لأحبابك من أهل غزة نسائها ورجالها وأطفالها وهم الذين يصومون أيام رمضان صوم الوصال، ليس لأنهم يحبون مخالفتك ولا مخالفة سنتك فحاشاهم ذلك وأنت أحب الخلق إليهم وهم الذين ما ربّوا أبناءهم إلا على الاقتداء بك والثبات على دينك، وهم الذين ما صبروا على ما أصابهم إلا رغبة وأملًا بأن يكونوا رفقاءك على الحوض. فليس رغبة منهم في مخالفتك وإنما لأنهم لا يجدون عند مغيب كل شمس ما يفطرون عليه، فلا غذاء ولا ماء. فلا إخوة العرب يطعمونهم ولا إخوة الإسلام يسقونهم ولذلك فإنهم يواصلون الصيام.
يا رب ها هم أهل غزة يصومون صوم الوصال، لأنهم لا يجدون ما يفطرون عليه.
يا رب ها هم أهل غزة يتيممون للصلاة بين يديك، لأنهم لا يجدون ماء يتوضؤون به.
يا رب ها هم أهل غزة لا تقام فيهم صلاة الجمعة إلا نادرًا، لأن مساجدهم دُمرت وسُويت بالأرض.
يا رب ها هم أهل غزة لا يصلون التراويح والقيام بسبب القصف والخوف.
يا رب ها هم أهل غزة لا يصلون أرحامهم في رمضان، لأن الأرحام إما شهداء أو جرحى أو مفقودون أو معتقلون، فكيف لهم أن يصلوهم، وكيف لا يكون صيام أهل غزة أفضل صيام.
اللهم إنما أصابهم كل هذا وأكثر منه إلا في سبيلك وابتغاء مرضاتك، فتقبل منهم وأذهب عنهم ما هم فيه.
اللهم اجعل جزاءهم من هذا في الآخرة أن تشفع فيهم القرآن، وأن تشفع فيهم رمضان، وأن تشفع فيهم المصطفى العدنان.
اللهم اجعل جزاءهم من هذا في الدنيا فرجًا عاجلًا غير آجل يعجب له أهل السماوات وأهل الأرض يا رب العالمين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.