الحاشرون أنوفهم والحاشرات
ليلى غليون
ما أكثر من يحشر أنفه فيما لا يعنيه، وما أكثر من هو مستعد لدفع نصف عمره لمعرفة خفايا الغير والخوض في شؤونهم الخاصة والعامة، ليدخل من باب الفضول المذموم واللذة العارمة في تتبع عورات الناس، يبحث عن صيد سمين يشبع نهمه ويقتل وقت فراغه في جلسات طويلة تبدأ باحتساء فنجان من القهوة وتنتهي بحمل ثقيل من الأوزار والذنوب على كاهله، وإن كان حشر الأنف والتدخل في شؤون الآخرين سمة ظاهرة في المجتمع، فإنه في كثير من الأحيان يصل التطفل إلى درجة الإحراج والإيذاء النفسي وتعكير الأجواء وربما إلى المشاحنات والمشاجرات.
وقد نبّه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر، حيث جمع الورع كله في كلمة واحدة وهي “ترك ما لا يعني” يقول عليه الصلاة والسلام: “من حسن إسلام المرء، تركه ما لا يعنيه”، وإن كان الفضول شيء غريزي إنساني، ولكن المقصود “حشرية الأنف” التي تتخطى كل الحواجز الفاصلة بين الفضول الطبيعي والفضول الذي يتعدى، بل يحاصر، بل يلغي كل خصوصية للآخر.
وللأسف الشديد فإن صفة الفضول والتطفل والتدخل فيما لا يعني في مجتمعنا يكاد لا يسلم منها إلا القليل، فهي صفة عامة، فقد تكون من مكونات شخصية الرجل الذي لا يهدأ له بال حتى يعرف خبايا نفسك وأسرار حياتك، وقد تكون من مكونات شخصية المرأة التي لا يستكين لها حال حتى تكتشف كل مستور، فهناك الرجل الفضولي وهناك المرأة المتطفلة، ولكننا لا نجافي الحقيقة لو قلنا إنّ هذه الصفة منتشرة أكثر في مجتمع النساء، فمن النساء مثلًا إذا ذهبت لزيارة إحدى صديقاتها أو معارفها، تراها وقد هاجت بها عاصفة الفضول والرغبة في معرفة ما لا يحق لها معرفته، فتطلق لبصرها العنان ليختطف النظرات في أرجاء ذاك البيت، فربما وقع النظر على أمر أدخل صاحبة البيت في حرج شديد، أو ربما وقع على أمر فيه هتك للأسرار، ويبلغ الأمر ذروته عندما تحاصرها بتطفلها لتمطرها بوابل من الأسئلة الخاصة المحرجة مستغلة وجودها في بيتها وكأن هذا الأمر يعطيها الحق بالخوض فيما تخوض، لتتهرب صاحبة البيت من هذه الورطة بطريقتها، أو ربما تجيبها على أسئلتها وهي مكرهة وقد دفعت ضريبة باهظة من الاستنزاف النفسي والعصبي، حتى إذا خرجت تبدأ ببث نشرتها الإخبارية ونشر الخصائص على الملأ وطبعًا مع إضافة بعض التوابل والبهارات التي لا بد منها حتى تتم “منتجة وإخراج” الخبر على أحسن صورة.
مع هذا النوع من البشر يزداد الأمر صعوبة وإيذاءً، فقد يكون الفضول ليس محرجًا فقط، بل جارحًا ومؤذيًا وأحدّ من السكين، وذلك عندما يتسبب في إيذاء مشاعر الآخرين خصوصًا أصحاب الابتلاءات أو المشاكل، أو أصحاب العلاقات المفككة خاصة تلك التي بين الزوجين أو في حالات الطلاق أو الخطبة أو الزواج، بحيث قد تصاب بالأرق والسهاد وربما المرض، إذا نامت ليلتها تلك وهي لا تزال تجهل “الحقائق” المهمة!! التي تدور حولها، وقد ذكرت إحداهن أنها تكره الخروج من البيت بسبب تعرضها الدائم لنفس السؤال حول التأخر في حملها، وغيره من الأسئلة مثل: أين المشكلة، هل هي منك أم من زوجك؟ هل ذهبت أنت وزوجك للفحص الطبي؟ ماذا كانت نتيجة الفحص، أو ربما (معمولك عمل)… (أكيد هناك سحر رابط قام به أحد مبغضيك لمنع حملك)، (يجب أن تذهبي للفتاح الفلاني لحل العقدة) وهناك من تستعرض أمامها خبرتها في هذا المجال وكأنها طبيبة أو اختصاصية تغذية لتصف لها أكلات مقوية لها ولزوجها!!
وتزداد درجة الفضول غليانًا عندما تفوح رائحة مشكلة أسرية هنا أوهناك أو إشاعة هنا وهناك لتخترق رائحتها حتى الأنوف المزكومة في عز الشتاء ليفتح سوق الكلام أبوابه على مصاريعه، يتسابق فيه تجار الغيبة والنميمة لعرض بضاعتهم يروجونها للغادي والرائح ليدلي كل بدلوه ويغني كل على ليلاه، وبدل أن يساهموا في رش المياه على النار، يرشون عليها الوقود، لتزيد اشتعالًا وتوقدًا، وما أكثر الأمثلة الحية التي تعكس صورًا للتطفل واختراق الخصوصيات والتدخل المذموم في مجتمعنا، وإننا نكاد نلمسه في الكثير من تفاصيل حياتنا، فإنك وأنت ذاهب إلى مكان ما، فإنني أجزم بأن السؤال السمج الوحيد الذي تتعرض له حتى تصل إلى ذاك المكان هو : إلى أين أنت ذاهب، وعندما تعود يتكرر نفس السؤال ولكن بصيغة سمجة أخرى: أين كنت؟!
وما أصدق ما قاله الشاعر:
إن التطفل في شأن الورى مرض تغدو به سمجًا في الناس متروكا
فالزم حدودك في قول وفي عمل ودعك من كل أمر ليس يعنيكا
نسأل الله تعالى العفو والعافية، ونسأله عز وجل أن ننشغل بعيوب أنفسنا وبهموم مجتمعنا وأمتنا والخطوب التي تزاحمت علينا والويلات التي ألمت بنا وبمجتمعاتنا وبإخواننا في كل مكان، لا أن نحمل مجهرًا وننشغل بتتبع عورات غيرنا ونتصيد أخطاءهم أو نتربص لهم في كل أمر يدعو إلى إحراجهم واستفزازهم وإيذائهم، فمثلما يكره الواحد منا تدخل الآخرين في شؤونه، فليكره أن يتدخل هو في شؤون الغير، ومثلما حياتنا الشخصية وخصوصياتنا خط أحمر، فكذلك الآخرين، وليوجه كل منا مجهر المراقبة نحو نفسه المليئة أصلًا بالأخطاء والعيوب، وليستنفر كل طاقته لتقويمها وتعديلها عسى الله تعالى أن يغنينا من فضله.