الأقصى ورمضان، الخلطة السحرية وبشريات الفرج
الشيخ كمال خطيب
أيام قليلة، بل ولعله يوم الأحد القريب إن شاء الله تعالى والذي عند غروب شمسه سيهلّ علينا هلال شهر رمضان المبارك، فاللهم أهلّه علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام هلال رشد وخير ربي وربك الله يا هلال رمضان.
شهر رمضان الشهر الذي يحبنا ونحبه، بل يعشقنا ونعشقه. وكيف لا نحبه ولا نعشقه وحبيبنا محمد ﷺ يقول فيه: “إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلّقت أبواب النار وصفّدت الشياطين”. فإذا كان رمضان يحبه الحبيب فكيف لا نحب من يحبه حبيب الله محمد ﷺ؟
يهل علينا هلال رمضان والأمة عمومًا على ما هي عليه من البلاء والمحن والفرقة وتسلط الأعداء وخيانة الزعماء وشعبنا الفلسطيني وأهلنا في غزة خاصة على ما هم عليه من التشريد والتقتيل والتجويع بفعل آلة الحرب الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا، وبفعل التواطؤ والخذلان تمارسه جلّ الدول العربية والإسلامية إلا من رحم الله.
فإذا كان المسلمون يفرحون لقدوم رمضان، فإن أهلنا في غزة سيبكون لمّا يروا هلال رمضان. ليس فقط سيبكون لفراق ثلاثين ألف شهيد وعشرة آلاف مفقود وثمانين ألف جريح ومليوني مشرد ومهجّر، وإنما هم الذين يبكون لأنهم لن يستطيعوا إحياء ليالي رمضان في مساجدهم التي دمرها الاحتلال حيث تم قصف وتدمير أكثر من ألف مسجد، وعلى الأئمة والقرّاء الذين اغتالهم قناصة وطائرات الاحتلال وقد تم اغتيال وقتل أكثر من مئة داعية وعالم في العلوم الشرعية.
إنهم الذين يبكون لأنهم سيُحرمون لقاءات الأهل والأحبة والأقارب والأرحام، حيث هامت كل أسرة بما بقي منها على وجهها. وكيف لا يبكون وهم الذين لا يجدون لقمة غذاء ولا شربة ماء يفطرون عليها. وكيف لا يبكون وما من أسرة إلا وفيها شهيد أو مفقود أو جريح أو أسير، بل ولعلّ أقارب سيفتقدون من أقاربهم أسرة بل أسرًا قد رحلوا كلهم، الأب والأم والأبناء والبنات ولم يبق منهم سوى الذكريات.
رمضان فاجأت الوجود بدعوة الحق فيها مشرق بسّام
فغدوت تاريخًا مجيدًا للهدى إذا أشرقت بجلالك الأعوام
رمضان واقعنا يجسد محنة عجزت عن استقصائها الأقلام
رمضان واقعنا يسود وجوده قلق سرت في طيّه آلام
ما أشقاهم
يهل علينا هلال رمضان وواقع الأمة بما هي عليه من ضعف وفرقة وذلّ، وتكالب أعداء، وخيانة زعماء، وضلالة، بل ونفاق علماء. أمة يتسلط عليها طغاة جبابرة لم يُسجّل لأحدهم انتصار ولو في معركة واحدة ضد أعداء، بينما هم الذين جيّشوا جيوشهم ضد شعوبهم كما هو حال مصر وسوريا والسودان واليمن. إنهم لم ينجحوا في إيصال شربة ماء أو حبة دواء أو لقمة غذاء لشعب شقيق وجارهم يحاصر.
فجميعهم أبطال جعجعة أرانب في النزال
وعلى صدورهم نياشين القتال ولا قتال
هذا العقيد وهذا اللواء وذا الفريق المارشال
رتب وتيجان لمن خاضوا المعارك في الخيال
وإذا كان هؤلاء وما أشقاهم يقودون معارك ضد شعوبهم، فإن التاريخ قد سجّل في رمضان أعظم الانتصارات الماجدة في تاريخ الأمة ضد أشرس وأعتى أعدائها. ففي شهر رمضان كانت معركة بدر الكبرى، وفي رمضان كانت معركة فتح مكة، وفي رمضان كانت معركة عمورية، وفي رمضان كانت معركة عين جالوت، وفي رمضان كان فتح جزيرة قبرص، وفي رمضان كانت معركة فتح الأندلس، في رمضان كانت معركة فتح بلغراد عاصمة الصرب، وفي رمضان كانت معركة المنصورة هزم المسلمون فيها لويس التاسع قائد الحملات الصليبية إلى مصر.
ها هو هلال رمضان يهلّ علينا وعلى صدر الأمة يجثم زعماء انتصروا في معركة رابعة وفي معركة تدمير حلب وريف دمشق بل سوريا كلها، وفي معركة اليمن.
ها قد أتى شهر الصيام الأكرم بدر يطل بوجهه المتوسم
كم جئت يا شهر الهداية سابقًا والنصر يحمل عزة للمسلم
كم جئت يا شهر السماحة حاملًا بشرى تنير الدرب للمتلعثم
فالفتح يشهد للرسول محمد ولصحبه ذاك الشموخ الأعظم
وبعين جالوت تجمع شملهم بالقرب من بيسان أرض الألجم
واليوم جئت وقد تشتت شملهم حتى تبدل نهجهم بمجرم
ما لي أرى وجه العروبة شاحبًا والكل يحيا تحت وطأة ظالم
مالي أرى صف العروبة غارقًا في بحر ذل ماؤه من علقم
مالي أراهم يسجدون لكافر ويل العروبة من عذاب ظالم
هل من رجوع للكتاب وصحوة ونقول للأحفاد هل من متقدم
سياسة رعناء
يهل علينا هلال رمضان ليس فقط على غزة وأهلها بما هم عليه، وإنما على القدس ومسجدها الأقصى المبارك بما هو عليه من اعتداءات وتدنيس ومخططات سوداء حاقدة. المسجد الأقصى الذي اعتادت المؤسسة الإسرائيلية ومنذ سنوات أن تسبق قدومه المبارك بالتحريض الأرعن، وصل إلى حد وصف شهر رمضان المبارك بأنه شهر الدم، وشهر القتل، وشهر الإرهاب والتطرف، وكل ذلك تمهيد لإيجاد مبررات لاقتحامه وتدنيسه، وصل إلى حد أن يقتحم المسجد الأقصى المبارك ليلة القدر المباركة. وها هم يتوّجون تحريضهم بما سبق وأعلنوا عنه منذ أسبوعين أنهم سيمنعون دخول الفلسطينيين ليس فقط من أهلنا وأبناء شعبنا في الضفة الغربية إلى المسجد الأقصى المبارك، وإنما سيمنعون كذلك أبناء الداخل الفلسطيني إلا من تجاوزوا الخمسين من سنوات العمر، وقد كانت هذه مقترحات الوزير الحاقد بن غفير والتي وافق عليها رئيس وزرائه نتنياهو.
صحيح أن نتنياهو قد أعلن مساء الثلاثاء عن إلغاء التقييدات التي سبق أن وافق عليها بما يخصّ فلسطينيي الداخل، ولكنه جعل ذلك مشروطًا ومع وقف التنفيذ، حيث أعلن أنه بعد الأسبوع الأول سيتم تقييم ومراجعة القرار حيث أصبح دخولنا للصلاة في مسجدنا معلقًا ومع وقف التنفيذ، خاصة وأنه أشار إلى أنها لن تكون تقييدات جارفة، أي أن التقيدات قد تطال شرائح وشخصيات من أبناء شعبنا.
إنها الحرب الدينية السافرة على أبناء شعبنا فيها سيتم انتهاك حرمة رمضان وحرمة المسجد الأقصى المبارك من قبل هذه الحكومة اليمينية المتطرفة. والأنكى من ذلك والأشد حقدًا، أن شهر رمضان المبارك سيتزامن معه عدد من الأعياد اليهودية والتي فيها يُسمح للجماعات الدينية اليهودية باقتحام المسجد الأقصى المبارك وتدنيسه بل وأداء الشعائر والطقوس الدينية فيه، ليمثل ذلك قمة الصلف والغرور بل والجنون الذي يتميز به بن غفير وحزبه والذي حتمًا سيقود إلى ظروف عصيبة في المسجد الأقصى المبارك نحن حذّرنا منها وحذّر منها سياسيون إسرائيليون كثيرون كما قال “يئير لبيد” زعيم المعارضة في إسرائيل، بأن استمرار بن غفير بالإمساك في الملف الأمني والشرطي على القدس والأقصى في شهر رمضان وتنفيذ سياساته، فإنه سيقود إلى الكارثة، وطالب نتنياهو بسحب تلك الصلاحيات منه، وما يزال الموقف غير واضح حيث ذكرت بعض وسائل الإعلام إنه فعل ذلك، والأيام القريبة سترينا حقيقة ذلك أو كذبه، خاصة وأن الشرطة بدأت تتواصل مع نشطاء من أبناء الداخل الفلسطيني وتقدم لهم استدعاءات إلى مراكز شرطة القشلة في القدس تحت عنوان “استدعاء لمقابلة استماع، أنت مدعو إلى مقابلة استماع قبل التفكير في تقييد وصولك إلى جبل الهيكل”.
فليس أنه وقاحة يطلقون اسم جبل الهيكل على المسجد الأقصى المبارك، وإنما يكون وصولك كمسلم إلى المسجد الأقصى معلقًا ومع وقف التنفيذ، وأن رجل الأمن الذي سيقابلك هو من يقرر السماح أو منعك من الدخول إلى المسجد الأقصى.
إن صلاتنا في المسجد الأقصى الذي هو للمسلمين وحدهم حقّ وليس منّة ولا مكرُمة ولا حسن خلق، لا من نتنياهو ولا من بن غفير وشرطته. نعم إنه حقّ لا يمنعنا منه إلا ظالم مستبد وعنصري حاقد.
فأي منطق وتحت أي مبرر سوى منطق الجبروت ومبرر العنصرية أن يتم منع المسلمين من الوصول والصلاة في مسجدهم الأقصى بينما يُسمح للجماعات الدينية اليهودية باقتحام وتدنيس المسجد الأقصى والصلاة فيه في شهر رمضان المبارك.
تهاني الذلّ وموائد العار
سوف تطالعنا وسائل الإعلام وشاشات الفضائيات العربية والإسلامية مع بداية شهر رمضان برسائل التهنئة والتبريكات يرسلها جلالته إلى فخامته، ويبعثها سموه إلى معاليه بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، لا بل إن الرئيس المجرم بايدن سيهنئ عكاكيزه وقطاريزه من الحكام العرب والمسلمين بحلول شهر رمضان، لا بل إن الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ سيهنئ أصدقاءه وحلفاءه من الزعماء العرب والمسلمين بحلول شهر رمضان دون أن يرف له جفن.
ألا يخجل من نفسه من سيهنئ ومن سيقبل التهنئة بحلول شهر رمضان شهر الصيام بينما هو يحاصر ويجوّع أطفال وأهل غزة فلا تصل إليهم لقمة الغذاء ولا حبة الدواء ولا شربة الماء، ولأنهم لن يجدوا ما يحصلون عليه، فلعلهم سيصومون صوم الوصال. ألا يخجل من نفسه كل زعيم عربي وهو يرى شعبًا شقيقًا يُذبح ويُهجّر ويُجوّع منذ ستة أشهر ولا يقوم بفعل شيء سوى بيانات تافهة هزيلة لا قيمة لها. ألا يخجل من نفسه من سيقبل التهنئة بحلول شهر رمضان المبارك وهو يسمع أن المسجد الأقصى سيتعرض لأبشع عملية ظلم وانتهاك وتدنيس. إنه المسجد الأقصى المبارك الذي حزنًا وألمًا على تدنيسه من الصليبيين، فإن صلاح الدين الأيوبي قد حرّم على نفسه الضحك، بل وحتى الابتسام ما دام الأقصى تحت احتلال الصليبيين.
ألا يخجلون من أنفسهم الزعماء من فلسطينيي الداخل ممن سيجلسون على مائدة إفطار الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ التي يقيمها سنويًا في رمضان وهم يعلمون ويذكرون توقيعه على قذائف المدفعية قبل أن تُطلق على غزة موقعة بالدمار والقتل بين النساء والأطفال هناك؟
ألا يخجلون من أنفسهم السياسيون والقياديون من فلسطينيي الداخل ممن سيجلسون على مائدة إفطار سفير الإمارات في تل أبيب وهم يعلمون الدور القذر التي تقوم به الإمارات والدور الذي يقوم به السفير خاصة بتنسيق وصول الإمدادات الغذائية والعسكرية من دول جنوب شرق آسيا إلى إسرائيل عبر موانئ الإمارات ومنها إلى السعودية والأردن وصولًا إلى إسرائيل، فكيف تلبي دعوة من دولته تقوم بهذه المهمة القذرة بينما أطفال غزة ونساؤها يموتون جوعًا وعطشًا ومرضًا.
لا الصوم صوم ولا الإيمان إيمان أتت على الصوم والإيمان أزمان
المسلمون ولا تغررك جمهرة ما للحجارة لولا الجمع بنيان
ضلّوا السبيل فلا الأخلاق مشرقة ولا الديانة إسلام وإيمان
والله للدين كم ظلمًا أهين وكم ظنوه نقصًا وفي التفكير نقصان
سل صفحة الأمس عمن أيدوه أما كانت لهم في نواحي الأرض تيجان
دين الحضارة والأخلاق أسعدهم فمذ أهانوه قد ذلّوا وقد هانوا
عدل من الله تأييدًا لسنته حظ المقصّر إقصاء وحرمان
يا قوم لوذوا بحبل الله واعتصموا إن الدواء لداء العرب قرآن
الأقصى ورمضان، الخلطة السحرية
دائمًا وعلى مدار التاريخ كان شهر رمضان المبارك بالنسبة للمسلمين يمثل محطة إيمانية ومعنوية فارقة، لذلك فلا عجب أن أعظم أشهر المعارك الفاصلة في تاريخ الأمة قد وقعت في شهر رمضان، ودائمًا وأبدًا كان المسجد الأقصى المبارك بالنسبة للأمة هو الصخرة الصلبة التي تتحطم عليها مؤامرات الأعداء وتتكسر عليها قرون شرورهم. لطالما كان المسجد الأقصى المبارك الرقم الصعب الذي خربط حسابات وبعثر أوراق كل المتآمرين عليه، فكيف إذا اجتمعت بركة شهر رمضان المبارك وبركة المسجد الأقصى المبارك.
الأقصى ورمضان، رمضان والأقصى، إنها الخلطة السحرية ذات التأثير العجيب الذي سيكون له التأثير المبارك عبر نسائم خير ونفحات عزة تهب وتبعث الإباء في الأمة كلها بإذن الله تعالى.
لا نعلم الغيب ولا ندّعيه، ولكنني على يقين أن رمضان المبارك والأقصى المبارك يحملان معهما رسائل خير وإرهاصات أمل وبشريات فرج قادم إن شاء الله تعالى.
وإذا كان قد قيل أن رمضان أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، فإنني أضيف وأقول: إن بعد رمضان عتقًا من الظالمين، وفرجًا وتمكينًا وفتحًا مبينًا للإسلام والمسلمين، وإن غدًا لناظره قريب.
فبشّر رمضان، بشّرك الله بالخير.
ارفع رأسك فأنت مسلم.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.