“اليوم التالي” وما قبله وما بعده
ساهر غزاوي
يكثر في الآونة الأخيرة، على مستوى السياسي والإعلامي، تداول مصطلح “اليوم التالي”، الذي يشير إلى تصور سياسي إسرائيلي لما يسمى ما بعد الحرب على غزة. وبالرغم من دخول الحرب شهرها الخامس، لم تتبلور حتى الآن الرؤية الإسرائيلية بشأن “اليوم التالي” لحرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، بل إن التخبط هو سيد الموقف، بسبب أن إمكانية تحقيق أهداف هذه الحرب لا تزال صعبة وبعيدة المنال، لأنها أهداف كبيرة وسقفها عالٍ جدًا، لا سيّما وأنه كلما طال أمد الحرب زادت صعوبتها وزاد دفع الثمن الكبير من الخسائر البشرية والاقتصادية، إلى جانب فقدان تراجع الثقة بالقيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، حيث يظهر آخر استطلاع الرأي العام الإسرائيلي الذي أجراه “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب في 4/2/2024، تراجع الثقة بالقدرة على “تحقيق النصر” في الحرب على غزة. فعن أي “اليوم التالي” يتحدثون؟؟
لكن، من المهم أولًا الوقوف عند اليوم الذي يسبق “اليوم التالي” لانتهاء هذه الحرب التي سوف تتوقف في يوما ما، بصرف النظر عن تقديرات المدى الزمني المتفاوتة لانتهائها، فمن الصعب توقع أو تحديد الشكل الذي ستنتهي عليه الحرب في وقت لا تزال في حرب التهجير والكارثة الإنسانية والإبادة الجماعية مستمرة، ولا تزال المجازر الدامية بحق السكان المدنيين في غزة متواصلة، ولا تزال أنظمة العالم العربي الرسمية تتبنى موقف التخاذل في تعاملها مع حرب الإبادة الجماعية على غزة، ولا يزال يطغى على الموقف العربي والإسلامي الرسمي والشعبي ملامح البؤس والخذلان تجاه ما تعانيه غزة وسكانها.
وفي العودة إلى الرؤية الإسرائيلية لليوم التالي للحرب، فمؤخرًا، قدم نتنياهو وثيقة مبادئ تتعلق بسياسة اليوم التالي للحرب على غزة، تتضمن احتفاظ إسرائيل بحرية العمل في كامل قطاع غزة دون حد زمني، كما تتضمن إقامة منطقة أمنية في القطاع متاخمة للبلدات الإسرائيلية. وتنص كذلك على إبقاء إسرائيل على الإغلاق الجنوبي على الحدود بين غزة ومصر مع التركيز على محور صلاح الدين “محور فيلادلفيا”، الذي كان وسيلة رئيسية لتعزيز نفوذ وقوة حماس العسكرية، بحسب الوثيقة. وتشتمل أيضًا على بند إغلاق وكالة الأونروا وأن تحل محلها وكالات إغاثة دولية أخرى.
مع ذلك، لا تملك إسرائيل تصورًا سياسيًا واضحًا ولا توافقيًا على “اليوم التالي”، وهنالك توجهات متباينة في الداخل الإسرائيلي بهذا الشأن، ومنهم من يرى بالوثيقة أنها تعبير عن توجيهات عامة تعبر عن الوضع المثالي المنشود من وجهة نظر إسرائيلية، وتفتقر إلى التفاصيل المطلوبة لترجمة المخطط عمليًا ومواجهة التحديات والتقييدات والاضطرارات السياسية الداخلية.
كما أنها واحدة من نقاط الخلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة. فقد وصفتها صحيفة “هآرتس” بـ “قائمة غير قابلة للتطبيق من التصريحات الأحادية الجانب التي لا تستحق مراجعة جادة”، فيما يصفها ميخائيل ميلشتاين، رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز ديان بجامعة تل أبيب الذي لا يرى أن “اليوم التالي” قريب، بـ “الوثيقة المليئة بالغموض وعدم الوضوح، وتعكس انعدام الرغبة في اتخاذ قرارات وما هي إلا مجرد مناورة وهروب داخلي، مشيرا إلى أن الوثيقة تواجه صعوبة في تشكيل أساس لخطة عمل قابلة للتطبيق والتنفيذ في الواقع”. مع أهمية الإشارة إلى أن الرؤية الإسرائيلية لليوم التالي مبنية على فرض أن إسرائيل نجحت في تحقيق أهدافها في الحرب على غزة. علمًا أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعم إسرائيل في حربها عسكريًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا، قالت إن تحقيق الأهداف العسكرية التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية غير واقعية.
أمام هذا كله، فإن نتنياهو وحكومته لا يزالون يصرون على استمرار الحرب في غزة، رغم تزايد الضغوط على المستويين الداخلي والخارجي، التي تطالب بإنهاء تلك الحرب. غير أن نتنياهو الذي لا يُبدي نتنياهو أي علامات تشير إلى نيّته التنحي عن منصبه أو الاعتراف بمسؤوليته عما حدث، يرى في استمرار الحرب وسيلة لتحقيق أهدافه، من مصلحة شخصية بحتة بعيدًا عن اهتمامات الإسرائيليين، ويعمل بالأساس على تأمين مستقبله السياسي للبقاء في السلطة، والهروب من الملاحقات القضائية التي يتعرض لها، وفي الواقع ليست لنتنياهو خطة واضحة، بشأن ما الذي سيقوم به في “اليوم التالي” لانتهاء الحرب.
إن رياح “اليوم التالي” للحرب، ستجري بعكس ما تشتهيه سفن نتنياهو، فالأزمات السياسية الداخلية والاقتصادية التي ظهرت ملامحها بشكل واضح منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر، مرشحة لأن تزيد وتتسع تصدعاتها نتيجة التخبط السياسي الذي يقوده نتنياهو. وبغض النظر عن نتائج الحرب بعد انتهائها، سيكون انقسام عميق داخل المجتمع الإسرائيلي أكثر مما كان عليه قبل الحرب، يتمحور الانقسام على الأساس الديني والاقتصادي الطبقي والأيدلوجي. وفي سياق ذلك، يبني المؤرخ الإسرائيلي، إيلان بابيه نظريته في نهاية المشروع الصهيوني بالأساس على عوامل التفكك الداخلي بين المعسكرين العلماني والمتدين التي ستزداد وتتعمق باختبار القوة التي لم تكن في صالح إسرائيل هذه المرة، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وفقدان اليقين في استمرارية المشروع نفسه، كما يقول.