شفاء القرآن .. الدلالات والمآلات
ورد التعبير عن القرآن بأنه شفاء، وهو أبلغ من التعبير بأنه دواء، فالشفاء هو نتيجة تناول الدواء، فالإنسان يتناول الدواء لقصد الشفاء، وقد يحصل المقصود وقد يتخلف، فإن الإنسان قد يشفى بالدواء أو بغيره، أو يشفى بلا سبب؛ بقدر من الله تعالى، وهذا حاصل مشاهد في حياة الناس.
ولهذا عبر أهل اللغة عن الشفاء كما جاء في «العين» (6/ 290) بأنه: “ما يبرئ من السقم”، وأصل الشفاء كما جاء في «مقاييس اللغة» (3/ 199)أنه: “يدل على الإشراف على الشيء; يقال أشفى على الشيء إذا أشرف عليه. وسمي الشفاء شفاء لغلبته للمرض وإشفائه عليه”.
والشفاء بهذا المعنى يراد به العافية من المرض، كما ذكر ذلك الحميري في «شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم» (6/ 3505)، كما أن لفظ الشفاء أعم، فالشفاء يكون من كل داء، فهو “يتناول داء الجهل والكفر والمعاصي والأمراض البدنية” “مجمع بحار الأنوار” (5/ 492)، وأصرح ما ورد من معانيه ما قاله الفيروز آبادي في «تاج العروس من جواهر القاموس» (38/ 382): ( {الشفاء)، ككساء: (الدواء)؛ وأصله البرء من المرض، ثم وضع موضع العلاج والدواء؛ ومنه قوله تعالى {فيه} شفاء للناس}.
وقال الراغب: الشفاء من المرض موافاة شفاء السلامة، وصار اسما للبرء. (ج {أشفية)، كسقاء وأسقية؛ و (جج) جمع الجمع: (أشافي)، كأساقي، ومنه سجعة الأساس: مواعظه لقلوب الأولياء أشافي وفي أكباد الأعداء} أشافي”.
الشفاء في القرآن
وقد ورد وصف القرآن بأنه شفاء في القرآن باللفظ الصريح ثلاث مرات، الأولى في سورة يونس، وجمع في وصفه بين الشفاء والهدى والرحمة، فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57] ، وفي سورة الإسراء وصف بأنه ” شفاء ورحمة”، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82] ، وفي سورة فصلت وصفه بأنه ” هدى وشفاء”، وذلك في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾ [فصلت: 44] وقد ورد في السنة وصف القرآن بأنه دواء، بمعنى ما يتداوى به ليحصل على الشفاء، كما ورد في سنن ابن ماجه من حديث علي: “خير الدواء القرآن”.
مجالات شفاء القرآن:
من أي شيء يداوي القرآن الكريم؟
جاء التعبير في وصف القرآن بأنه “شفاء” بصيغة التنكير، ليفيد العموم والشمول، فهو يشفي من كل مرض؛ أيا كان نوعه. يقول ابن القيم في «الداء والدواء » (ص8-9): فإن القرآن كله شفاء، كما قال في الآية المتقدمة، فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والريب، فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أشجع في إزالة الداء من القرآن. ومن ذلك أنه شفاء لأمراض النفس البشرية؛ حيث يدفعها إلى الاستقامة، ويحفظها من الخلل والوقوع في الزلل؛ فتستقيم على أمر الله، كما قال الغزالي في «إحياء علوم الدين» (2/ 300): «القرآن شفاء للناس كلهم على اختلاف الأحوال فآيات الرحمة شفاء الخائف وآيات العذاب شفاء المغرور الآمن ومنه: أنه شفاء من وساوس الشياطين ومكائدهم لبني آدم؛ فينظف القرآن القلب من تلك الأوساخ الشيطانية، والشهوات الحيوانية، قال ابن القيم في «إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان» (1/ 92): «القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أمَرَّه فيها الشيطان، فأمر أن يطرد مادة الداء ويخلى منه القلب ليصادف الدواء محلاً خاليا، فيتمكن منه، ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير فى القلب، كما أن الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولا، فكلما أحس بنبات الخير فى القلب سعى فى إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن».
ومن العلماء من يرى أن القرآن ليس شفاء من الجهل والمعصية والوساوس وغيرها من الأمراض المعنوية، بل هو أيضا شفاء للأمراض البدنية، واستشهدوا لذلك بما ورد في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: «انطلق نفر من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم– في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق حتى تجعلوا لي جعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ {الحمد لله رب العالمين} فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي، وما به قلبة، فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقي: لا نفعل حتى نأتي النبي –صلى الله عليه وسلم– فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله –صلى الله عليه وسلم– فذكروا له ذلك، فقال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، اقتسموا واضربوا لي معكم سهما».
وعلى هذا، اعتبر الإمام ابن القيم أنه يتداوى بالفاتحة من الأمراض الحسية، فقال في «الداء والدواء (ص8-9): ” ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة، لرأى لها تأثيرا عجيبا في الشفاء. ومكثت بمكة مدة يعتريني أدواء ولا أجد طبيبا ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيرا عجيبا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما، وكان كثير منهم يبرأ سريعا”.
ومما ذكره العلماء أن القرآن يتبرك به لدفع الأذى والضر عن الإنسان، كما جاء في «بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية» (1/ 37): عن ابن عباس من كل داء فقيل فيتبرك به لدفع المضار والمكاره. وقيل: شفاء للأمراض الباطنة من الاعتقاد والأخلاق والأعمال والأمراض الحسية لأنه يدفع بقرآنه كثيرا من الأمراض” يعني يقتصر في التداوي به على أمراض القلوب والنفوس.
وعلل العلماء الذين يرون أن القرآن يستشفى به من الأمراض الحسية أيضا عدم استشفاء كثير من الناس بالقرآن من الأمراض الجسدية أن هذا ليس أمرا عاما لجميع الخلق، بل للصفوة من المخلصين، فقال ابن القيم في «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة» (1/ 250 ط العلمية): «وكون القرآن شفاء والصلاة شفاء وذكر الله والاقبال عليه شفاء أمر لا يعم الطبائع والأنفس، فهذا كتاب الله هو الشفاء النافع وهو أعظم الشفاء وما أقل المستشفين به، بل لا يزيد الطبائع الرديئة رداءة ولا يزيد الظالمين إلا خسارا.
كما أن ترك أكثرهم الاستشفاء بالقرآن من أمراض القلوب لا يخرجه عن كونه شفاء لها وهو شفاء لما في الصدور وإن لم يستشف به أكثر المرضى كما قال تعالى {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} فعم بالموعظة والشفاء وخص بالهدى والمعرفة فهو نفسه شفاء استشفى به او لم يستشف به ولم يصف الله في كتابه بالشفاء إلا القرآن والعسل فهما الشفاآن هذا شفاء القلوب من امراض غيها وضلالها وأدواء شبهاتها وشهواتها وهذا شفاء للأبدان من كثير من اسقامها واخلاطها وآفاتها.
ولخص الأستاذ سيد قطب – رحمه الله- شفاء القرآن- كما في الظلال” (4/2248) بقوله: «في القرآن شفاء، وفي القرآن رحمة، لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان فأشرقت، وتفتحت لتلقي ما في القرآن من روح وطمأنينة وأمان”. في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة، فهو يصل القلب بالله، فيرضى ويستروح الرضا من الله والرضى عن الحياة، والقلق مرض، والحيرة نصب، والوسوسة داء، ومن ثم هو رحمة للمؤمنين. وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان. وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير فهو يعصم العقل من الشطط. وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء المجتمعات”.
وخلاصة القول: إن وصف القرآن بأنه شفاء وليس دواء؛ لأن الشفاء هو النتيجة الحتمية للتداوي، فهو دواء بلا شك.
إن القرآن أعظم شفاء لمن ساء خلقه، كما أنه أعظم شفاء لأمراض القلوب من الغل والحقد والحسد والكراهية وغيرها.
إن القرآن يستشفى به من بعض الأمراض، ولكن لا يقع ذلك لعامة الناس، بل لعباد الله الصالحين، ممن عندهم يقين بذلك، وممن صفت قلوبهم بالطاعة والاتباع لأمر الله، فيحصل ذلك الشفاء بقدر الله تعالى؛ خارجا عن الأسباب الدنيوية، ولا يعني هذا ترك الاستشفاء بالطب، فإن الله تعالى أمرنا بالاستشفاء بالطب الدنيوي على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، حين قال: “تداووا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء”.
على أن يكون التداوي من باب الأخذ بالأسباب، أما الشفاء؛ فمرده إلى الله تعالى، ولهذا جاء على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 80]، فالطبيب يداوي، والشفاء من الله.