خيرات السلاطين.. كيف أحيا المماليكُ فلسطين بالأوقاف؟
دخلت فلسطين في حوزة الإسلام منذ العام 16 من الهجرة، حين فتحها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وأصبحت من بعده مأوى للمسلمين كافة من المشرق إلى المغرب، ففيها المسجد الأقصى الذي تهافت إليه العُبَّاد والعلماء والصالحون، وفيها المدن التاريخية الكبرى مثل الخليل مدينة إبراهيم -عليه السلام-، وموقع مدفنه، وفيها عسقلان التي ورد في فضلها أحاديث تحفز المسلمين على الرباط فيها في مواجهة الأعداء، وفيها غزة التي مات فيها أحد أجداد رسول الله حتى عُرفت باسمه “غزة هاشم”، وهي التي وُلد فيها الإمام الشافعي.
هذه الأهمية التاريخية والدينية لفلسطين جعلتها محط اهتمام الخلفاء والسلاطين وأهل الخير منذ العصر الراشدي وحتى العصر العثماني، فكل جيل من هؤلاء كان يحرصُ على التعمير والإنشاء وإقامة الخدمات العامة في مختلف المجالات التعليمية والدينية والصحية والاجتماعية وغيرها. ومن هؤلاء السلاطين الذين سيطروا على فلسطين وطردوا المغول من أطرافها ومن بلاد الشام كاملة سنجدُ المماليك الأتراك والجراكسة الذين حكموا مصر وبلاد الشام والحجاز، وفي القلب منها فلسطين، لمدة قاربت قرنين ونصف القرن، وقد سجَّل التاريخُ ما أقاموه فيها من منشآت لا يزال الكثير منها باقيا حتى يومنا هذا.
أوقاف المماليك الأوائل
ومن اللافت أن هذه المنشآت كان جُلها وقفا، والوقف هو تحبيسُ الأصل وتسبيلُ المنفعة؛ أي إيقاف أراضٍ وعقارات ودكاكين وغيرها من الأمور التي تجلب مالا متدفقا وجعل هذا المال منحصرا في مؤسسات دينية أو تعليمية أو صحية أو خدمية أو اجتماعية بصورة تأبيدية، يستفيد منها المسلمون كلهم على مر الأجيال والعصور، وبهذا الوقف انطلق قطار الحضارة الإسلامية وازدهر، وحملت الأمة على عاتقها مفاتيح نهضتها، وسدَّ حاجتها.
وقد مدح ابن خلدون نظام الأوقاف وازدهاره في المشرق الإسلامي زمن المماليك، وهو الذي جاء إلى مصر المملوكية في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي مستوطنا إياها في ربع القرن الأخير من حياته، وقد وجد الأوقاف من أقوى الأسباب التي أدت إلى انتعاش هذه الدولة، فقال: “وما أدري ما فعلَ الله بالمشرق والظن به نفاق (انتشار) العلم فيه، واتصال التعليم في العلوم، وفي سائر الصنائع الضرورية والكمالية؛ لكثرة عمرانه والحضارة، ووجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم”[1].
ولئن لفتت الأوقاف المملوكية وما أحدثته في أسواق العلوم والخيرات نظرَ ابن خلدون في مصر، فقد أكثروا منها في فلسطين، وكان من أبرز الواقفين بها السلطان الظاهر بيبرس البُندقداري، حيث شهد عهده تعميرا للمساجد والرابطات والمؤسسات الدينية في مصر وبلاد الشام، كما صب جُل اهتمامه على القدس. ففي عام 659هـ في السنة التالية من ارتقائه للحكم مباشرة، أمر بجمع الأموال اللازمة للعمارة، حيث بعث الصُّناع والآلات لإصلاح قبة الصخرة التي كانت قد تداعت للسقوط، كما قام بإعمار قبة السلسلة القريبة منها وزخرفتها، وأوقف عليها ريع قُرى نابلس والخليل وغيرها[2].
وبعد ذلك بثلاثة أعوام قام بيبرس بإرسال بعثة جديدة لإصلاح وتعمير المدينة المقدسة بترميم مساجدها ومدارسها. ولهذا السبب سارع أمراؤه للتعمير في القدس على نهجه، ومنهم الأمير أيدغدي البصير الذي أنشأ “رباط البصير” قرب المسجد الأقصى، كما أنشأ مسجدا في مدينة أريحا، وقد أوقف العديد من القرى في فلسطين لصرف ريعها في ثمن خُبز ونعال لمَن يردُ إلى القدس من المجاورين والمسافرين والزُّهاد والنُّسَّاك[3].
وعندما زار بيبرس القدس عام 661هـ لتفقد أحوالها، خصَّص في كل سنة خمسة آلاف درهم للمسجد الأقصى للإنفاق على تسيير شؤونه العمرانية والفكرية، كما راجع بنفسه الأوقاف القديمة التي أوقفها خلفاء وملوك المسلمين للمسجد، وشدَّد على حمايتها والحفاظ عليها، كما أولى عنايته لتجديد مقام إبراهيم -عليه السلام- في مدينة الخليل، وزاد في الرواتب التي كانت تُصرف على الزائرين والمجاورين، كما قرر تعيين أوقاف جديدة، فجعل ريع محاصيل قرية إذنا القريبة من الخليل حصرا على مقام إبراهيم وزواره والمقيمين فيه[4].
كما أنشأ الظاهر بيبرس سماطا أو مائدة دائمة طوال العام في مدينة الخليل، وقد تحول هذا السِّماط إلى مؤسسة مملوكية سلطانية يحرص السلاطين على رعايتها، والوقف عليها، وتعيين الموظفين والمشرفين وتحديد رواتبهم الشهرية. وظلت هذه الأوقاف على مائدة مقام إبراهيم الخليل -عليه السلام- مستمرة حتى جاء السلطان برقوق بعد أكثر من قرن فأضاف إليها قرية دير إستيا الواقعة جنوب غرب نابلس وقفا على هذه المائدة، ونقش نصَّ وثيقة الوقف هذه على عتبة الباب الشرقي للمسجد الإبراهيمي[5].
ومن أشهر السلاطين المماليك الذين جاءوا بعد الظاهر بيبرس واهتموا بمدينة القدس ومنشآتها وأوقافها السلطان المنصور قلاوون الذي عمَّرَ المسجد الأقصى من الجهة القبلية مما يلي الغرب عند جامع الأنبياء، كما أنشأ رباطا للصوفية عند باب الناظر اسمه “الرباط المنصوري”، وأيضا أنشأ القناطر على الدرجتين الشماليتين بصحن قبة الصخرة، وعمَّرَ باب القطَّانين، كما أنشأ قناة السبيل الواقعة عند بركة السلطان خارج أسوار القدس من جهة الغرب. ثم جعل المنصور قلاوون مخصصات سنوية للمسجد الأقصى، واهتم بأمر الأوقاف على المدينة وتنميتها، وجاء ابنه السلطان الناصر محمد بن قلاوون ليكمل ما قام به أبوه المنصور من أعمال خيرية؛ فقد أوقف على الرباط المنصوري عدة بساتين زيتون غربي مدينة غزة، وعدة قرى أخرى في مناطق الشمال الفلسطيني[6].
الجاولي وإسهامه في القدس والخليل
ويُحصي المؤرخون مساحة الأراضي الزراعية التي أوقفت على المساجد والمدارس في بلاد الشام وفلسطين في عهد الناصر محمد بن قلاوون فيقدرونها بمئة وثلاثين ألف فدان في الشام وحدها. وقد عيَّن السلطان الناصر محمد الأمير سنجر الجاولي أميرا على غزة، ثم تطور الأمر فأصبح بمنزلة والي فلسطين بكاملها، وقد أنشأ هذا الأمير مسجدا كبيرا في مدينة الخليل ظل البناء مستمرا فيه لمدة ثلاث سنوات. ويقع هذا المسجد قرب الحائط الشمالي الشرقي للمسجد الإبراهيمي، حيث أنشأ هذا الجامع من ماله الخاص وليس مال الدولة، وسنرى اليوم النقش على أحد جدران المسجد: “أُنشئ في أيام مولانا السلطان الملك الناصر.. بنظر العبد الفقير إلى الله تعالى سنجر بن عبد الله الناصري من ماله رحمه الله، ولم يُنفق عليه شيء من الحُرم، كُتب بتاريخ ربيع الآخر سنة عشرين وسبعمائة”[7].
وأضاف الأمير سنجر الجاولي بجوار هذا المسجد رواقا ليكون مطبخا مخصصا لتوزيع الطعام على الفقراء والمجاورين والزوار. وقد عرفت مدينتا القدس والخليل وجود مطابخ موقوفة على الفقراء والمجاورين والزوار بصورة مجانية، وتعود هذه العادة إلى أزمنة تقدمت على عصر المماليك، فحين زار الرحالة الفارسي ناصر خسرو مدينة الخليل سنة 439هـ وجد بها دار ضيافة فوق المسجد، قائلا: “وعلى سطح المقصورة في المشهد حجرات للضيوف الوافدين، وقد وُقف عليها أوقاف كثيرة من القرى ومُستغلَّات (من الدكاكين وغيرها) ببيت المقدس”[8].
وقد زار المؤرخ ابن فضل الله العُمري مدينة الخليل سنة 745هـ، وزار هذا المطبخ والفرن الذي أنشأه الجاولي فقال عنه: “زرتُ الخليل صلوات الله عليه وسلامه في ذي الحجة سنة خمس وأربعين وسبعمائة، فأخبرني جماعة من المباشرين (الموظفين) أن في بعض ليالي هذا الشهر في هذه السنة فرقوا زيادة على ثلاثة عشر ألف رغيف، وأن غالب أيام العام ما بين السبعة آلاف والعشرة آلاف، ويُفرّق أيضا مع الخُبز طعام العدس بالزيت الطيب والسُّماق، وبالنهار يُطبخ أيضا قدر من الدشيش ويُفرق على الواردين، وفي بعض الأسبوع يُطبخ ما هو أفخر من ذلك”[9].
وقد أشاد مؤرخ القدس والخليل مجير الدين العليمي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر بهذا المطبخ الموقوف لله، وتكلم عن أقسامه المختلفة، فذكر أنه كان مخصصا لعمل الجريشة للمجاورين والواردين، كما كان يتم عمل السماط الذي يُفرق على أهل البلد والواردين في ثلاثة أوقات كل يوم. وقُدِّر ما كان يُعمل من الخُبز يوميا بأربعة عشر ألف رغيف، تبلغ خمسة عشر ألفا في بعض الأوقات، وأضاف مجير الدين أن سعة وقف هذا المطبخ لا تكاد تُضبط، وأنه لم يكن يُمنع أحد عنها لا من الأغنياء ولا من الفقراء، وكان يشتمل على ست طواحين، وثلاثة أفران، ومخزن ضخم للقمح والشعير، ووصف مقدار سرعة العمل في هذه الأفران في القرن العاشر الهجري بحيث إن القمح يدخل إلى المخزن ثم إلى الطواحين ثم إلى العجن والخبز ثم يخرج خبزا بحيث كانت المخازن تنفد سريعا، وأنه كان يوجد عدد كبير جدا من العاملين في هذا المطبخ والفرن وملحقاتهما[10].
كل هذا بفضل الأوقاف التي أنشأها الأمير سنجر الجاولي الذي كان رجلا تقيا ورعا، شافعي المذهب، أصله من ديار بكر، ولم تتوقف منشآته عند هذا الحد، بل أنشأ المدرسة الجاولية في القدس في الزاوية الشمالية الغربية من ساحة المسجد الأقصى. وتقع هذه المدرسة اليوم ضمن ما يُعرف بروضة المعارف الوطنية، أو ما يُعرف أيضا بالمدرسة العُمرية، وقد حوَّل الإنجليز هذه المدرسة بعد احتلالهم فلسطين إلى مركز للشرطة سنة 1936م، ثم استولى عليها المتطوعون عام 1948م بقيادة عبد القادر الحسيني[11].
وخلال رحلة ابن بطوطة لفلسطين ذكر أهم المنجزات العمرانية التي أنشأها الأمير الجاولي في مدينة غزة مقر نيابته، حيث جعلها واحدة من أكثر مدن دولة المماليك عمرانا في المجالات الصحية والتعليمية والدينية وغيرها، وأشهرها جامعُه في غزة، حتى إن المؤرخ نجم الدين الغزي الذي وُلد بعد ذلك بقرنين ونيف يقول عن حجم هذا الجامع واتساعه: “إنه كان يخرج منه في كل ليلة من رمضان نحو أربعمائة فارس مع الذين يأتون للصلاة فيه، هذا عدا عمن يأتون إليه بدون ذلك، وكان فيه الكثير من العلماء والمدرسين، والأئمة على المذاهب الأربعة، وكان عند باباه مسقاتان (وعاءان) من الرخام متقابلتان تُملآن في كل ليلة من رمضان سُكرا يشربُ منهما الداخل والخارج، وقد جعل له أوقافا كثيرة بقضاء غزة وغيرها”[12].
أوقاف المماليك المتأخرين
وفي القرن الخامس عشر وصل السلطان الأشرف برسباي إلى السلطنة، وكان قبل ذلك يتولى وظيفة ناظر الحرمين الشريفين “القدس والخليل” في فلسطين، وقد عمَّر الأوقاف ونمَّاها، ووقف للحرمين عوائد قرى كثيرا ذكرها منقوشة وألصقت بحائط الصخرة الشريفة تجاه قبلة المحراب. ويلحظ مؤرخو فلسطين أن توثيق الأوقاف المملوكية على جدران المساجد لا يزال باقيا إلى اليوم، ففيها يُسجَّل نوع الوقف وتاريخ إنشائه واسم السلطان. ومن الأوقاف التي أوقفها برسباي نجدُ قريتي العوجا والنوبعمة في غور الأردن قرب أريحا على قبة الصخرة المشرفة، ولا تزال لوحة الوقف منحوتة قرب الباب الشرقي لقبة الصخرة[13].
وقد حذا كل مَن جاءوا بعد برسباي مثل السلاطين جقمق وإينال وخشقدم حذوه، فأوقفوا الأوقاف على القدس والخليل، وأرسلوا إليها المصاحف الكبيرة، وسعوا لإبطال المظالم. والحق أن “قوة الشعور الديني لدى سلاطين المماليك وأمرائهم وأعيانهم كانت حافزا على إنفاقهم على مصالح الحرمين الشريفين “القدس والخليل” وأهاليهما، وتَمثَّل هذا الإنفاق في الهِبات والأُعطيات والصدقات”[14].
أما السلطان الأشرف قايتباي فيُعد من أشهر السلاطين المماليك المتأخرين الذين توسعوا في الإنشاء والتعمير والأوقاف في القدس الشريف، ولا تزال بعض مدارسه وأسبلته وإصلاحاته في قبة الصخرة والمسجد الأقصى باقية إلى يومنا هذا، وتأتي على رأسها المدرسة الأشرفية التي تقع داخل المسجد الأقصى بالقرب من باب السلسلة، وسُميت أيضا السلطانية، حيثُ بُنيت للمرة الأولى في زمن السلطان الملك الظاهر خشقدم (865هـ/1461م)، ثم أُعيد بناؤها سنة (887هـ/1482م) في زمن السلطان الأشرف قايتباي، وعُدَّت لؤلؤة بديعة في بيت المقدس بعد الأقصى وقبة الصخرة، بسبب غنى مبناها بالعناصر المعمارية والزخرفية الرائقة، ورتب لها السلطان الأشرف قايتباي مشايخ وفقهاء ومدرسين للتعاليم الصوفية والفقهية، وقد هُدم القسم الأكبر منها في زلزال (903هـ/1497م)، ثم أُعيدت إلى سابق عهدها[15].
هذه بعض أوقاف السلاطين المماليك في فلسطين عامة، والقدس والخليل خاصة، وهي تدلل على مدى اهتمام هؤلاء السلاطين والأمراء بهذه القطعة الغالية من ديار الإسلام. وهناك كثير من الأوقاف والمنشآت الأخرى التي أنشأوها لكن المقام لا يتسع لذكرها، وهي أيضا دليل على مقدار أهمية فلسطين في تاريخ الإسلام عامة.
المصادر
[1] مقدمة ابن خلدون ص551.
[2] ابن كثير: البداية والنهاية 13/205.
[3] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7/121.
[4] فايز الزاملي: الأوقاف في فلسطين في عهد المماليك ص63، 64.
[5] خليل عثامنة: فلسطين في خمسة قرون ص429.
[6] العسلي: معاهد العلم ص224.
[7] عثمان الطل: الأمير سنجر الجاولي ومنجزاته العمرانية في فلسطين ص301، 302.
[8] ناصر خسرو: سفر نامه ص86.
[9] ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار في مسالك الأمصار ص223.
[10] العليمي: الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل 1/148.
[11] عثمان الطل: الأمير سنجر الجاولي ومنجزاته العمرانية في فلسطين ص301، 302.
[12] مصطفى الطباع: إتحاف الأعزة في تاريخ غزة 2/220.
[13] الأوقاف في فلسطين في عهد المماليك ص69.
[14] الأوقاف في فلسطين ص70.
[15] العليمي: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل 2/35، 36، 325.
المصدر: الجزيرة