الثلم الأعوج من الثور الأمريكي الكبير
ساهر غزاوي
لم تتوقف، وعلى ما يبدو أنها لن تتوقف، ردود الأفعال الإسرائيلية الهوجاء والانفعالية على تقديم دولة جنوب أفريقيا دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية على خلفية تورطها في أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين بقطاع غزة، ولا تزال المستويات السياسية والإعلامية والأكاديمية الإسرائيلية (إلا ما ندر منها) توجه أشدّ العبارات وأقذعها ضد دولة جنوب أفريقيا وضد كل من أيّدها ودعمها في شكواها ضد الإبادة الجماعية في غزة إلى جانب مطالبتها بإسقاط قضية الإبادة الجماعية في غزة. وهكذا بكل صلافة يرددون أن الشكوى القانونية لجنوب أفريقيا في الساحة الدولية ضد ما جرى وما يجري على أرض غزة من حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي، هي شكوى “تشويهًا للحقائق” و “قصة مشوهة بشكل صارخ”!!
إنّ ردود الأفعال الإسرائيلية الهوجاء هذه وما يصدر عنها من عبارات قاسية وصلافة وغرور قد ترجمت، ولا تزال تترجم، على أرض الواقع بقصف المستشفيات والمساجد والكنائس والمخابز وقتل الصحفيين والنساء والأطفال والنازحين، وقد ترجمت بإسقاط الطائرات الحربية الإسرائيلية قنابل على رؤوس المدنيين الأبرياء في قطاع غزة، تفوق، القنابل الذرية التي ألقتها أمريكا على اليابانيين في هيروشيما وناكازاكي.
وحتى موظفي منظمة الأمم المتحدة الذين منذ بداية الحرب تجاوز عدد ضحاياهم 100 موظف في قطاع غزة لم يسلموا من آلة القتل العسكرية الإسرائيلية التي تحكمها العقلية الانتقامية في حرب الإبادة في غزة، علمًا أن هذه الحالة الأكبر من حيث عدد ضحايا موظفي المنظمة مقارنة بأي صراع آخر في تاريخ المنظمة الممتد 78 عامًا. في المقابل لم تستطع الأمم المتحدة ومكاتبها في جميع أنحاء العالم حتى الآن فعل أي شيء لمحاسبة إسرائيل على قتل موظفيها غير تنكيس أعلامها والوقوف دقيقة صمت حدادًا على أرواح الذين فُقدوا في غزة جرّاء القصف الإسرائيلي، وغير تصريح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأن “التاريخ سيحاكمنا جميعا”.
وبالرغم من أن إسرائيل هي العضو الوحيد في الأمم المتحدة الذي تعتبر عضويتها مشروطة بالالتزام بميثاق الأمم المتحدة والالتزام بتنفيذ قراري الجمعية العامة، قرار (181) الصادر عام 1947 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، وقرار (194) الصادر عام 1948 القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هًجّروا منها قسرًا في إطار عمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية، إلا أن إسرائيل لم تنفذ أيّا من القرارين ولم تستوفِ شروط التزامها بقرارات الأمم المتحدة، ومع ذلك أصبحت عضوًا في الأمم المتحدة عام 1949 وتتمتع اليوم بالعضوية الكاملة فيها. بينما فلسطين، الدولة القابعة تحت هذا الاحتلال، تتمتع فقط بصفة عضو مراقب، مع أهمية الإشارة إلى أن “فلسطين” التي مُنحت هذه الصفة من الأمم المتحدة تبلغ مساحتها اليوم في حدود ما يسمى الرابع من حزيران 1967 (12% من أصل 22%) من المساحة الإجمالية لفلسطين التاريخية التي تبلغ 27.900 كلم.
اعتادت الغطرسة الإسرائيلية منذ نشأتها عام 1948 ومنذ قبولها في هيئة الأمم المتحدة عام 1949 الذي كان بمثابة اعتراف جماعي بدولة إسرائيل، أن تضرب بعرض الحائط كل قرارات الشرعية الدولية واعتادت على عدم مراعاتها لحقوق الإنسان والقانون الدولي، بل والتحريض المباشر على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة مثل ما قال بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي: “سنحول غزة إلى جزيرة من الخراب”، ومثل ما قال وزير الحرب يوآف جالنت: “نحن نقاتل حيوانات بشرية”.
هذه الغطرسة لم تكن لتكون لولا الدعم اللامحدود من الثور الأمريكي الكبير ودعمه العسكري والمالي والسياسي ومن الغرب عمومًا، ولم تكن لتكون لولا التخاذل الدولي والعجز والضعف العربي والهوان الإسلامي، وعدم اتخاذ خطوات عملية لمحاسبة إسرائيل على جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وكما يقول المثل الشعبي: “الثلم الأعوج من الثور الكبير”.
إنه الثور الأمريكي الكبير الذي يتربع على عرش نظام الفساد والإفساد العالمي، هذا النظام الذي جعل هذا الثور يتحكم بأدوات الهيمنة الدولية المتمثلة بالصندوق النقد الدولي والتحكم بالاقتصاد العالمي والسيطرة على الثروات، والتحكم بقرار حق النقض (الفيتو)، واحتكار تجارة السلاح والإعلام والطعام والجوع، والأهم أن الثور الأمريكي الكبير حرص على أن تكون كل الإجراءات التي يقوم بها في العالم مُغلفة بغلاف القانون وحقوق الإنسان، لذا ليس من باب الصدفة أن يحرص هذا الثور على أن يتواجد على أراضيه أهم المؤسسات الدولية التي تُسيطر على القرار الدولي، ليعطي لمرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني والدولي مزيدًا من الغطرسة والصلافة والغرور. وسيبقى العالم يعيش تحت غطرسة وصلافة نظام عالمي يتربع على عرشه الثور الأمريكي الأبرق قد ملأ الأرض ظلمًا وجورًا إلى أن يعيش تحت نظام عالمي راشد يملأ الأرض قسطًا وعدلًا.