معركة الوعي (190) محاولة لقراءة الأهداف الحقيقية للحرب على غزة
حامد اغبارية
مع دخول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يومها الـ 105، ومع كل هذا التدمير المنهجي، الذي يبدو – في نظر الكثير من المحللين الإسرائيليين والفلسطينيين والأجانب- أنه هدف استراتيجي بحد ذاته وليس نتيجة تلقائية لحرب مدمرة، ومع هذه الأعداد من الضحايا من شهداء مدنيين وجرحى ومشردين، ومع منهجية التجويع والتعطيش ومحاولات الإذلال التي ليست خافية على أحد، بل يتفاخر بها جنود الاحتلال في فيديوهات التقطوها بأنفسهم، لم يتمكن جيش الاحتلال الإسرائيلي من تحقيق شيء من الأهداف المعلنة، والتي يمكن تلخيصها باستعادة الرهائن وتدمير حركة حماس وإنهاء سيطرتها على غزة ونزع سلاحها وإزالة الخطر على الحدود. لم يتمكن جيش الاحتلال من تحقيق ذلك أو جزء منه، بل لم يقترب قيد أنملة من تحقيق شيء من هذه الأهداف. فكم يحتاج الاحتلال من وقت، وكم سيقتل من المدنيين وكم سيدمر من بنايات وبنى تحتية كي يصل إلى أهدافه تلك؟
الجواب على هذا السؤال ليس جوابا مباشرا. فالاحتلال لا يسعى إلى تحرير الرهائن، مثلما يعلم مسبقا أن تدمير حماس مسألة غير ممكنة عمليا، بل تبدو مستحيلة. فما الذي يريده إذًا؟ ولماذا يواصل ما يسميه “الضغط العسكري” من أجل تحقيق الأهداف؟
ها قد مرت أربعة أشهر تقريبا، في أطول حرب غير متوازنة يخوضها الجيش الإسرائيلي منذ 1948، والشيء الوحيد الظاهر للعيان هو تسطيح قطاع غزة ومسح بيوتها وعماراتها ومبانيها، وتسويتها بالأرض، إلى جانب عشرات آلاف الضحايا غالبيتهم من الأطفال والنساء. فهل بهذه الطريقة سيتمكن الاحتلال من تحرير الرهائن وإنهاء حكم حماس؟
يبدو لي أن الاحتلال جعل قضية تحرير الرهائن في أسفل سلم أولوياته، وما إعلان قادته السياسيين والعسكريين ليل نهار بأن همه الأول هو تحريرهم سوى ذر للرماد في عيون ذويهم وفي عيون الإسرائيليين، ومن أجل كسب المزيد من الوقت، بينما الأجندة الحقيقية بعيدة كل البعد عن هذه الأولوية الحارقة بالنسبة لهم.
منذ اللحظات الأولى لشن هذه الحرب بعد أحداث السبت السابع من تشرين الأول الماضي، بدأت الطائرات الحربية الإسرائيلية تدك المباني فوق رؤوس أصحابها من المدنيين، مستهدفة إلى جانب ذلك المدارس والجامعات والمستشفيات والمراكز الصحية والمؤسسات السيادية والبنى التحتية، وكل ما يمكن أن يوفر لأهل غزة أدنى مقومات الحياة. وقد جاء القصف الجنوني دون إنذارات مسبقة، كما كان الاحتلال يفعل في حروبه السابقة على غزة، إذ كان يطلب من السكان الإخلاء قبل القصف. فما الهدف من ذلك؟ ولأي شيء سعى الاحتلال ويسعى من وراء هذا التدمير الشامل على الصورة التي يراها العالم كله بالبث المباشر؟
لا شك أن صدمة السابع من تشرين غير المسبوقة من حيث الجهة التي نفذتها، وبطريقة حدوثها وبنتائجها تشكل عمليا دافعا لرد فعل شديد القسوة يرد الاعتبار لدولة ظلت طوال خمسة وسبعين عاما بمثابة “الغولة” التي يخوّفون بها العرب. لكن ما حدث على أرض المعركة في غزة فعلا لم يكن مجرد رد فعل شديد القسوة لرد الاعتبار. وليس هكذا تُردُّ الاعتبارات وتُزال آثار الإهانات. ما حدث ويحدث حتى الآن أكبر من ذلك بكثير.
بعيدا عن إمكانية أن يكون الانتقام الغريزي دافعا قويا لهذا السلوك المجنون، وهو كذلك، فإن الاحتلال – فيما يبدو لي- لديه هدف أكبر بكثير من الأهداف المعلنة.
هذا الهدف يتلخص بتهجير أهالي غزة، الذين يُعتبر قسم كبير منهم مهجرين أصلا منذ 1948، وإخلاء القطاع كليا وإعادة احتلاله، ولكن هذه المرة دون أن يكون فيه ذكر لبشر.
وفي الطريق إلى تحقيق هذا الهدف مارس الاحتلال الضغط المتواصل، ليس على حركة حماس، ولكن على أهل القطاع المدنيين، في محاولة لدفعهم إلى أحد أمرين: إما الانقلاب على حماس والتخلي عنها بصفتهم الحاضنة الشعبية الصلبة والقوية التي ثبتت في الحروب السابقة وحافظت على احتضانها للحركة والوقوف من ورائها رغم حجم التضحيات، وإما الفرار من ويلات الحرب غير المسبوقة بحجمها وآثارها والخروج نهائيا من غزة إلى أي مكان يوفر لهم الحماية والأمن. لذلك مارس الاحتلال القصف المتواصل وألقى بآلاف الأطنان من المتفجرات فوق رؤوس الناس، ثم مع الحرب البرية قصف بقذائف الدبابات وجرّف وهدم وأزال أحياء كاملة، وألحق الأذى الشديد بمليونين وثلاثمائة ألف غزّي. وقد رأت الدنيا كلها كيف أن الاحتلال قطع الماء والكهرباء، ودمر كل ما يمتّ إلى الحياة بصلة، سعيا إلى تحقيق ذلك. وإلا بماذا يمكن أن نفسر تدمير المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء (التابعة للأمم المتحدة) ومنع دخول المساعدات والمواد الإغاثية، وسائر القائمة الطويلة من الممارسات التي شاهدتها جهات الأرض الأربع لحظة بلحظة؟
الآن نسأل: كان الأذى الشديد الذي زاغت فيه الأبصار وبلغت فيه القلوب الحناجر قد وقع فعلا في الأيام الأولى من الحرب المجنونة، ولو كان هذا الأمر سيحقق انفضاض الحاضنة الشعبية من حول حماس والانقلاب عليها، لحدث منذ البداية، لأن حجم الضحايا، خاصة من الأطفال والنساء والمباني المهدمة، كان مهولا إلى درجة تفوق الخيال الهوليوودي. لكن الغزيين لم يفعلوا. بل صبّوا جامّ غضبهم على الاحتلال وعلى الأنظمة العربية وعلى سلطة رام الله وعلى أمريكا وأوروبا وكل من دعم الاحتلال في حربه هذه. فلماذا واصل الاحتلال ذات النهج؟ هل كان يتوقع أن مزيدا من الضغط سيحقق هذا الهدف؟ في الشهر الأول؟!! لم يحدث! في الشهر الثاني؟!! لم يحدث! في الشهر الثالث؟!! لم يحدث! ونحن الآن في الشهر الرابع ولم يحدث، ولا أظنه سيحدث. لأنه بالمنطق، لو صحّ توقع الاحتلال، لحدث منذ البداية لأن الاختبار الصعب يقع مع أولى لحظات وقوع المصيبة، وطالما أنه لم يحدث على مدار الفترة السابقة فما الذي سيجعله يحدث الآن؟
يبقى الهدف الموازي؛ وهو إخلاء القطاع من أهله وتحويله إلى مستوطنة إسرائيلية. فهل يمكن تحقيق هذا الهدف؟
أراه مستحيلا. فرغم القوة التي تملكها المؤسسة الإسرائيلية عسكريا، ورغم الدعم الدولي، ورغم تواطؤ الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج، ورغم جلوس سلطة رام الله على قارعة شارع (6) في انتظار الدبابة الإسرائيلية التي ستنقلها إلى غزة، فإن كل تلك القوة لم تحقق أدنى ما يمكن، وهو تحرير رهينة واحدة، فهل ستحقق هدفا جنونيا، هو أقرب إلى الوهم، كهذا الهدف؟
ولو افترض مَن شاء أن هذا الهدف قابل للتحقيق، فكم سيحتاج الاحتلال من الوقت للوصول إليه، وهو الذي يعترف قادته (من عسكريين وسياسيين) – كما تعترف واشنطن وغيرها- أنه حتى تحقيق إطلاق الرهائن بواسطة مزيد من الضغط العسكري يبدو مستحيلا بعد مرور قرابة أربعة أشهر؟
يُقال إن نتنياهو شخصيا يسعى إلى إطالة أمد الحرب إلى أقصى مدى لتأخير لحظة السقوط المدوّي. وقد يكون هذا صحيحا. وقد يكون فيه وجاهة. فقد سجل التاريخ شخصيات كنتنياهو أشعلت حروبا وسحقت شعوبا من أجل نزعات شخصية أو من أجل عشيقة أو من أجل ناقة أو فرس. ولكنني أستبعد أن يكون هذا هو السبب الأكبر والوحيد الذي يدفع نتنياهو إلى سياسته هذه. فهو يحمل بين جنبيه مشروعا تحدَّث عنه في كتبه، وهو مشروع يتضمن تحقيق حلم المشروع الصهيوني – التوراتي الذي يسعى إلى مملكة إسرائيل الكبرى التي ستحكم العالم.
يراودك الشعور القويّ بأن ما حدث يوم السابع من تشرين الأول الماضي كان في نظر الإسرائيليين، وفي مقدمتهم نتنياهو، بمثابة مؤشر خطير يهدد الوجود الصهيوني. وفي هذه النقطة لا فرق بين بن غفير وبين غانتس ولبيد وحتى أكثر الإسرائيليين يساريّة. فجميعهم يلتقون على الهدف الأكبر وهو الدفاع عن المشروع وعن الوجود. لذلك فإن الحرب الجارية الآن تبدو حربا وجوديّة بالنسبة للإسرائيليين بكل ما في الكلمة من معنى. ولذلك ترى الدنيا كلها حجم الضحايا والتدمير والقصف الأعمى من السماء والأرض.
ويجب عدم تجاهل ما يمارسه الاحتلال في الضفة الغربية. فهي ذات المعركة بذات الأهداف وذات الدوافع. وبهذا المفهوم ومن خلال استقراء ما جرى ويجري حاليا فإن كفة اتساع الحرب ودخول عناصر جديدة فيها هي الراجحة حاليا، على الرغم من مؤشرات ميدانية توهم في ظاهرها باحتمالية وقف الحرب في لحظة ما. ومن هذه المؤشرات سحب ألوية وفرق عسكرية إسرائيلية من القطاع. ولو حدث وزادت احتماليات وقف إطلاق النار، فإن هذا يعني أن هذه الجولة ستتبعها جولات قادمة. ومن المحتمل أن يكون الدافع لوقف الحرب الحالية صفقة كبرى تتجاوز في حجمها تبادل الأسرى بناء على شروط حماس التي تشترط تبييض السجون. صفقة قد تؤدي إلى هدنة طويلة تلتقط فيها الأطراف أنفاسها، استعدادا لجولة قادمة، وتتضمن فك الحصار عن غزة أو تخفيفه بما يضمن الحياة الكريمة للغزيين، وضبط غلاة المستوطنين سواء فيما يتعلق بالأقصى المبارك أو الضفة الغربية.