قانون “الشاباك” الجديد.. لا خصوصية لحق الخصوصية
المحامي عمر خمايسي
أصبح من البديهي جدًا الحديث عن انتهاك خصوصية المواطنين العرب في إسرائيل في ظل الحالة الهستيرية التي تعيشها الدولة في السنوات الأخيرة من توترات سياسية واجتماعية تنعكس بطبيعة الحال بشكل مباشر على هؤلاء المواطنين ضحايا القمع والتمييز العنصري الذي يتعرضون له في كافة حياتهم اليومية. وإلى جانب أن هؤلاء المواطنين يواجهون تحديات كبيرة فيما يتعلق بالمساواة أمام القانون الإسرائيلي، فيُتعامل معهم كذلك كمجرمين يُسمح بانتهاك حقهم بالخصوصيّة.
لقد تجاوزت إسرائيل حدود قواعد القانون الدولي الإنساني، مع أهمية الإشارة أن القانون الدولي ومنظمات حقوق الإنسان في أحايين كثيرة تغض الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية في الخصوصية التي تُمارس بحق العرب الفلسطينيين في شرقي القدس والضفة الغربية وغزة وحتى بحق المواطنين الفلسطينيين في الداخل (48)، في الوقت الذي تؤكد فيه منظمة العفو الدولية (أمنستي) على استمرار هذه الانتهاكات دون توقف.
نحن كمؤسسة حقوقية أكدنا في أكثر من مناسبة أن الانتهاكات الإسرائيلية التي تُمارس بحق العرب الفلسطينيين تشكل فصلًا عنصريًا وجريمة ضد الإنسانية كما هي مُعرّفة في نظام روما الأساسي والاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري. وذلك بالرغم من أن القانون الدولي يعتبر أن “قانون حماية الخصوصية” أحد الحقوق اللصيقة بالإنسان، فالإنسان بحكم طبيعته له أسراره وصلاته الخاصة، حيث لا يمكن أن يتمتع بهذه الخصائص إلا إذا ترك وشأنه في إطار يحفظ له حقه في الحياة الخاصة بجوانبها المختلفة، لهذا سعى كل من القانون الدولي والقانون المحلي لإيجاد ضمانات تكرس حماية كافية لهذا الحق، وفي حالة الاعتداء على هذا الحق يجب إيقاف هذا الاعتداء وإصلاح الضرر الذي سببه.
والأهم أن إسرائيل التي يحلو للكثيرين وصفها بـ “واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط” تضرب بعرض الحائط بقانونها الأساس (كرامة الإنسان وحريّته) الذي يعتبر الحق في الخصوصيّة هو حق أساسي لكل إنسان أينما كان، وقد تم الاعتراف به كحق دستوري ذي قيمة عليا، ومع ذلك فإن إسرائيل مستمرة دون توقف في انتهاكاتها لحق الخصوصية، خاصة تحت غطاء الحرب وحالة الطوارئ التي تعيشها البلاد منذ السابع من شهر أكتوبر الماضي. فقد دفعت الحكومة الإسرائيلية باتجاه العديد من التعديلات التشريعية الجوهرية ونفذت بعضها، ما أدى إلى تآكل كبير في إجراءات حماية خصوصية المواطنين خاصة العرب. وفي السياق لا بد من التأكيد أن التهكم على كوريا الشمالية التي تحتفظ بقبضتها الخانقة على تدفق الاتصالات والمعلومات داخل وخارج البلاد، لم يعد له أي مبرر قياسا مع ما بات يحصل في إسرائيل.
فأخيرًا وليس آخرًا أُعلن أن الحكومة الإسرائيلية تعتزم تعديل قانون الشاباك بما يمنح جهاز الأمن الإسرائيلي العام صلاحيات واسعة تضع تحت تصرفه قواعد ضخمة من البيانات، وتمكنه من إجراء عمليات تفتيش سرية لأجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة دون علم أصحابها باستخدام برامج تجسس على غرار “بيغاسوس”، وذلك بموافقة مباشرة من رئيس الحكومة، في ظل حد أدنى من رقابة الكنيست والإشراف القضائي على عملية التفتيش، وهو ما يعتبر أكبر انتهاك محتمل لحماية خصوصية المواطنين. وقد سبق هذا المقترح، وفي ظل حالة الحرب أيضًا، مذكرة قانون يُسمح بموجبه للجيش الإسرائيلي والشاباك باختراق كاميرات حراسة خاصة والاطلاع على فحواها من دون علم أصحاب الكاميرات تحت تبريرات منع تسرب معلومات من شأنها أن تشكل خطرًا على أمن الدولة. وقبلها مشروع قانون يمس بخصوصية المواطنين من خلال استخدام كاميرات التعرف على الوجوه في الحيز العام، ويسمح لأجهزة الأمن باستخراج معلومات من الكاميرات من دون استصدار أمر قضائي!!
إن المتتبع للأبعاد القانونية لإعلان حالة الطوارئ والتي يتم فيها تفعيل القوانين التي فيها أكثر مساسًا في حقوق الإنسان والحريات والحق في الخصوصية، يجد أن إسرائيل هي حالة فريدة استثنائية، بل وشاذة عن المنظومة الدولية، فمنذ قيامها عام 1948 وتعيش دولة إسرائيل “حالة طوارئ” متواصلة التي تمنح السلطات الحكومية صلاحيات واسعة جدًا تحت ستار حماية أمن الدولة والجمهور. بيد أن الإبقاء على “حالة الطوارئ” لا ينبع من حاجة موضوعية إليها، ذلك أن الظروف الموضوعية التي استدعت إعلانها في العام 1948 (من وجهة النظر الإسرائيلية) لم تعد قائمة بعد. وبالتالي فإننا نرى تمديد القوانين التي يشرعها الكنيست على اعتبار أنها “قوانين مؤقتة” بقرار من الحكومة والكنيست، ما معناه أن الحالة المؤقتة والاستثنائية تصير حالة دائمة ومستمرة، إذ درج الكنيست على تمديد (إعلان مجدد) حالة الطوارئ في كل سنة، بصورة أوتوماتيكية، لسنة إضافية أخرى، حتى أن الحكومة لم تجد حاجة إلى استخدام صلاحيتها القانونية بإعلان حالة الطوارئ بنفسها، ولو مرة واحدة.
في واقع الأمر، ليس صدفة أن تتشابه القوانين الإسرائيلية العنصرية مع نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) في جنوب أفريقيا الذي كان يتخذ من القوانين العنصرية أداة واستراتيجية استعمارية للتمييز بين الأقلية البيضاء المنحدرة من أصول أوروبية وبين الأغلبية السوداء ذات الأصول الأفريقية والهندية وفق منهج إقصائي يُحافظ على المصالح والبنيات التجارية والاقتصادية التي أقامها البيض في ثلاثة قرون من الاستعمار. وعليه فإننا نجد أن أكثر قانون دارج في إسرائيل هو قانون تمديد المدة (أمر الساعة) التي لا تزال تطبقه إسرائيل في الاعتقالات الإدارية، ما معناه أنه منذ أن تم تفعيل هذا القانون وحتى يومنا هذا نستطيع القول إن إسرائيل اعتقلت آلاف الفلسطينيين وزجت بهم في السجون دون أن تكون هناك أية محاكمة، ومن المعتقلين من أمضى فترات طويلة بسبب أن القانون يمنح الصلاحية لاعتقال إداري لستة أشهر قابلة للتمديد إلى ما لا نهاية.
وعودة إلى قانون الشاباك الأخير، نجد أن القانون الذي يعطي الصلاحية للجيش الإسرائيلي والشاباك والوحدات الخاصة الدخول في منظومة انتهاكات خصوصيات الأفراد باستخدام برامج تجسس، ويوفر لهم سهولة اختراق أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة دون إذن من المحكمة أو علم من أصحابها، وانما يكون الأمر خاضع لسلطتهم الوحيدة، بل إنه لا يوجد رقابة حقيقة من جسم خارجي، ما يعني أن الأجهزة المخترقة جميعها مربوطة في شبكات الإنترنت وهذا معلوم مسبقًا لديهم وهم أصلًا من تكلم سابقًا عن مثل عمليات الاختراق هذه التي تتم خارج نطاق القانون، والذي تغير اليوم أن عمليات الاختراق والتجسس أصبحت تتم بغطاء قانوني دون الحاجة للتوجه للمحكمة لأخذ الموافقة المسبقة أو تقديم تبرير لحاجة عملية الاختراق، فيما لا يوجد مكان في هذه الدولة للحديث عن الديمقراطية والحفاظ على الحق في الخصوصيّة، فكل هذه الأمور تستطيع الانتظار ما زال الأمر متعلق بحماية أمن الدولة والجمهور، من وجهة نظر إسرائيلية.