سياسة التجويع والحصار بين قطاع غزة وشِعب أبي طالب
الشيخ كمال خطيب
كثيرة ومتنوعة هي الأساليب التي اعتمدها كفار قريش العرب في حربهم لرسول الله ﷺ ولدعوته في سبيل صد الناس عن دعوة الإسلام {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} آية 217 سورة البقرة.
فزيادة عن التكذيب والسخرية والاستهزاء، ووصفه ﷺ مرة بالكذاب ومرة بالمجنون ومرة بالساحر ومرة بالأبتر الذي لا ولد له، ومرة بالأذى المباشر بالشتم والضرب والخنق وإلقاء سلا الجزور على رأسه الشريف ﷺ.
لكن رؤوس الكفر والشر فيهم لم يكتفوا بكل هذا، بل عمدوا إلى أسلوب الحصار الاقتصادي والاجتماعي لرسول الله ﷺ وأصحابه، وكان ذلك في السنة السابعة للبعثة الشريفة واستمر لمدة ثلاث سنوات متواصلة أي حتى السنة العاشرة للبعثة.
قال ابن القيم رحمه الله في وصف ملامح ذلك الحصار في كتابه -زاد المعاد في هدي خير العباد: “لما رأت قريش أمر رسول الله ﷺ يعلو والأمور تتزايد، أجمعوا أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب وبني عبد مناف ألا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله ﷺ، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم؛ إلا أبا لهب فإنه ظاهر قريشًا على رسول الله ﷺ وبني هاشم وبني المطلب، وحبس رسول الله ﷺ ومن معه في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، وبقوا محاصرين مضيقًا عليهم جدًا مقطوعًا عنهم الميرة والمادة نحو ثلاث سنين حتى بلغ بهم الجهد وسُمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشِعب”.
لقد نفد ما كان معهم من الطعام لولا ما كان يأتيهم خفية تحت جنح الليل من بعض أصحاب المروءات كهشام بن عمرو الذي كان يحمل جملًا طعامًا ويوصله ليلًا إلى باب الشعب ويدفعه إلى الأمام حتى يصل إلى المحاصرين فيأخذون ما عليه من طعام فيوزعونه بينهم. لقد وصل الأمر بهم إلى حد أن يأكلوا ورق الشجر والعشب، بل أكثر من ذلك كما يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: “خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثًا”. أي أنهم أكلوا جلود جيف الحيوانات.
إلى أن كان اليوم بعد ثلاث سنوات من الحصار والجوع حين تعاهد خمسة من أشراف قريش من أصحاب المروءة على القيام بانقلاب ضد هذا الحصار ونقض الصحيفة، وكان هؤلاء الخمسة هم: هشام بن عمرو وزهير بن أمية والمطعم بن عدي وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هشام، وذهبوا إلى الكعبة وقد اتفقوا أن يكون أول المتكلمين زهير بن أمية ثم يساندونه فيما يقول.
فلما وصل زهير طاف بالبيت سبعًا ثم أقبل على الناس فقال: “يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يباع لهم؟! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة. فقام أبو جهل وقال: إن هذا أمر دُبر بليل، كذبت والله لا تشق. فقام زمعة بن الأسود فأيد رأي زهير وكذلك فعل الآخرون وللحادثة تفاصيل كثيرة في كتب السيرة، لكنها انتهت بدخول المطعم بن عدي إلى داخل الكعبة ليمزّق الصحيفة فوجد أن الأرضة قد أكلتها إلا كلمتي “باسمك اللهم”.
أليس فيكم صاحب نخوة؟!
وكيف لنا أن نتحدث عن سياسة الحصار والتجويع اعتمدتها قريش ضد رسول الله ﷺ وأصحابه دون أن نذكر سياسة الحصار والتجويع التي تعتمدها اليوم حكومات إسرائيل منذ سبعة عشر عامًا ضد أبناء شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، نساؤهم وأطفالهم وشيوخهم ومرضاهم.
هذا الحصار والتجويع الذي وصل إلى حد ما أوردته صحيفة هآرتس العبرية يوم الخميس 21/12 من أن 90% من سكان قطاع غزة يمر عليهم الأيام المتواصلة من دون طعام في حده الأدنى.
وإذا كان زهير بن أمية قد وقف ونادى: “يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم جياع؟”، فهل نسمع بعد سبعة عشر عامًا ذا مروءة وشهامة من زعماء العرب والمسلمين فيصرخ في مقر الجامعة العربية أو في مقر منظمة التعاون الإسلامي أو على منبر الأمم المتحدة أو في قصره الملكي أو الجمهوري ويقول:
– كيف تموت نساء غزة وأطفالها وشيوخها عطشًا وفي أرض العرب يجري النيل ودجلة والفرات؟!
– كيف يكون أكثر من يملكون الملايين والمليارات في العالم هم من أثرياء العرب، بينما نساء غزة وأطفالها ينامون وهم يتضورون جوعًا؟ بل إن بعض الآباء أطعموا أطفالهم لحم الحمير خشية هلاكهم من الجوع. وما أصدق ما قاله الإمام الشافعي الغزّي في ديوان شعره مما ينطبق على أطفال غزة:
تموت الأسد في الغابات جوعًا ولحم الضأن تأكله الكلاب
وعبد قد ينام على حرير وذو نسب مفارشه التراب
– كيف يكون العرب أصحاب 40% من ثروة النفط في العالم وكل الدنيا تستورد نفطهم بينما أطفال غزة لا يصلهم لتر سولار لمشافيهم ويبيتون في العتمة؟!
– وكيف للعرب وهم يملكون ويمدون أوروبا وأمريكا والصين بالغاز للطهي والتدفئة، بينما أطفال غزة يموتون من البرد ويصنعون خبزهم وطعامهم إن وجد على الحطب؟!
– أليس بين زعماء العرب زعيم كهشام بن عمرو أو كزهير بن أمية يقف وينادي: يا عرب يا مسلمين، كيف لنا أن نأكل ونشرب ونلبس وأشقاؤنا وإخوتنا وأخواتنا في غزة لا يأكلون ولا يشربون، وأطفالهم يموتون من المرض والبرد والجوع؟!
– إنهم يتذرعون أن هنالك اتفاقيات قد وقعت بينهم وبين إسرائيل، وأنهم ملزمون بتطبيقها والالتزام بكل بنودها كاتفاقية كامب ديفيد مع مصر، واتفاقية وادي عربة مع الأردن، واتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، واتفاقية أبراهام مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وأن اتفاقية كانت على وشك أن توقع مع السعودية.
فإذا كان العربي الكافر هشام بن عمر وزهير بن أمية قد كفرا بوثيقة تحول بينهما وبين إنسانيتهما وحرّكت فيهما مشاعر المروءة والإنسانية، فكيف لا تكفرون أنتم باتفاقيات تطمس فيكم معاني وبقايا مروءة وإنسانية وعروبة ودين؟! فما أصدق قول الشاعر فيكم لما قال:
أرى الملايين في الأقطار ليس لهم في عالم اليوم إجلال وإكبار
هانوا على الله لما أصبحوا دولًا وبات يملكهم في الناس سمسار
يا سيد الرسل قد باتت عروبتهم سيفًا يهتك به للدين أستار
إن العروبة بالإسلام عزتها فإن هوت غيره فلتبكها الدار
تبًا لكم
إنه سلاح التجويع والحصار لفرض أجندات وسياسات يستخدمه الأقوياء ضد من يخالفهم، هكذا مارسوه ضد العراق وأفغانستان والصومال والسودان وليبيا، ويمارس اليوم ضد غزة وهو مستمر منذ سبعة عشر عامًا مع العلم أن لغزة حدودًا مع مصر التي يربطها مع أهل غزة روابط الدين والقومية والدم والرحم والجوار والإنسانية.
منذ سنوات تحركت مشاعر وضمائر وإنسانية لأجانب ليس لأطفال ولا نساء غزة معهم رابطة الدين ولا القومية ولا الدم ولا الرحم، وإنما هي مشاعر الإنسانية جعلتهم يسيّرون قوافل بحرية وبرية لكسر الحصار عن غزة مثل قافلة “شريان الحياة” وقافلة “الأمل” وغيرها. وها هم يتحركون هذه الأيام في مسيرات جماهيرية حاشدة في عواصمهم مطالبين برفع الحصار عن غزة ووقف الحرب ضد أطفالها ونسائها وشيوخها وضد تهجير أهلها، بينما لا نرى في عواصم العرب والمسلمين الا الصمت والانخراس والذي لا أرى له تفسيرًا سوى أنه القهر والبطش والترهيب يمارسه أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة ضد كل من تسول له نفسه أن يعبّر عن انسانيته كما فعل يومًا هشام بن عمرو وزهير بن أمية وغيرهما.
لقد شاهدناهم وهم يعقدون مؤتمرات قمة باهتة لم يصدر عنها إلا تصريحات جوفاء عقيمة فارغة، لم نسمع فيها صرخة هشام بن عمرو، وإنما كل ما سمعناه هو التباكي ومناشدة مجلس الأمن والأمم المتحدة التي هي كذلك مصابة بالصمم عن سماع أنّات وآهات أطفال غزة.
لقد جاء الأجانب من غير العرب والمسلمين في سنوات ماضية بقوافل تحت عنوان “شريان الحياة” و “الأمل” ليوصلوا لأطفال غزة الدواء والغذاء والكساء، وليحافظوا على شريان الحياة ويبعثوا الأمل في نفوسهم، بينما أنتم يا أصحاب الجلالة تقطعون شريان الحياة، بل شرايين الأخوة والدم مع أهل غزة، فهل أصبح الأجنبي أكثر إنسانية منكم؟! تبًا لكم..
لا تنظري الى دموع عينيه
إن مثل أطفال غزة مع العرب والمسلمين الذين ماتت مروءتهم ونخوتهم، كمثل ذلك الصياد الذي خرج إلى البرية في يوم بارد لينصب فخّة لاصطياد العصافير حتى أنه من شدة البرد الذي كان يلسع وجهه فقد تساقطت الدموع من عينيه. وكان على أغصان شجرة قريبة عصفورتان تنظران إليه وتراقبان فعله. فقالت إحداهما وقد أشفقت عليه من البرد وتساقط الدموع: أنظري إلى دموع عينيه، فقالت لها الأخرى: لا تنظري إلى دموع عينيه، ولكن انظري إلى فعل يديه، إن يديه تنصبان الفخ والشرك لاصطيادنا. وأنهم الزعماء العرب المتباكون وأصحاب الشعارات الرنانة، فلا يجب أن ننظر إلى تباكيهم ولا إلى شعاراتهم، ولكن يجب أن ننظر إلى أفعالهم وسياساتهم، فهم شركاء في الحصار والتجويع والتعطيش لأطفال غزة ونسائها وشيوخها وأيتامها. ولعل فيهم يصدق قول الشاعر:
ربّ وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتّم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
وإذا كانت جهات ومؤسسات سترفع شكاوى ضد حكومة إسرائيل إلى محكمة الجنايات الدولية بسبب اعتمادها سياسة التجويع والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية لأطفال ونساء وشيوخ ومرضى ومشرّدي غزة، فإن أطفال غزة ونساءها قد رفعوا شكواهم ضد قاتليهم وضد حكام العرب والمسلمين إلى محكمة العدالة السماوية، ورفعوا مظالمهم وملفاتهم بين يدي قاضي السماء.
فليس أن هؤلاء سيسجل التاريخ عليهم ويكتب عنهم أن عربيًا كافرًا كان أكثر نخوة ومروءة وشهامة منهم، وإنما هم الذين سيأتون يوم القيامة يمسك بتلابيبهم أطفال غزة الذين ماتوا من القصف والجوع والمرض والبرد والحرمان واليتم، يقولون لرب العالمين: يا ربنا خذ حقنا من هؤلاء، يا رب كانوا يسمعون بكاءنا من اليتم فلم ينصرونا، يا رب كانوا يسمعون صراخنا من ألم الجراح فلم يسعفونا، يا رب كانوا يسمعون ارتجافنا من البرد فلم يدفئونا، يا رب كانوا يسمعون استغاثاتنا من الجوع فلم يطعمونا، يا رب خذ لنا حقّنا منهم.
فلن يكون من هؤلاء إلا الندم وطلب التشفّع عند الله ولن يكون لهم ذلك {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ*رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ*قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} آية 106-108 سورة المؤمنون.
الخير الذي في الشرّ
كانت المقاطعة وسياسة التجويع والحصار قمة الظلم الذي لقيه رسول الله ﷺ وأصحابه طوال ثلاث سنوات، لكنه كان يحمل بين طياته كثيرًا من الخير لدعوة الإسلام، وقد قال الله تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} آية 216 سورة البقرة.
فقد كان هذا الحصار والمقاطعة وسياسة التجويع سببًا في انتشار الإسلام وإقبال الناس عليه، حيث انتشر خبر الحصار بين قبائل العرب من خلال مواسم الحج والوفود التي تأتي مكة، ومن خلال الأسواق ومنتديات الشعر التي كانت تعقد في مكة خلال مواسم الحج والتي كانت أكبر وسيلة إعلام في ذلك الزمان.
سمعت العرب بما فعلته قريش من الأذى برسول الله ﷺ وأصحابه بتأثير ذلك الحصار وخاصة على النساء والأطفال والضعفاء، وسمعت العرب بصبر وتحمّل هؤلاء من أجل عقيدتهم ودينهم وثباتهم عليه، مما أثار سخط القبائل على زعماء قريش وتعاطفهم مع رسول الله ﷺ وأصحابه حيث أصبح يأتي من هؤلاء إلى مكة خصيصًا يسأل عن هذا الدين الذي جاء به محمد ﷺ والقرآن الذي أنزل عليه. وكان من أشهر هؤلاء وفد يثرب الذي جاء في السنة الثانية عشرة للبعثة أي بعد رفع الحصار بعامين وقد أسلموا وبايعوا رسول الله فيما سميت “بيعة العقبة الأولى”. فكان الحصار والتجويع عاملًا رئيسيًا من عوامل انتشار الإسلام وإقبال الناس عليه على عكس ما أراد طواغيت قريش يومها {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} آية 30 سورة الأنفال.
ولعلّ صورة مشابهة كتلك الصورة التي نراها هذه الأيام من إقبال الآلاف المؤلفة من أهل الغرب خصوصًا على الإسلام متأثرين مما يرونه من قتل الأطفال في غزة وجوعهم ثم صبرهم واحتمالهم، حيث يُهدم لأحدهم بيته ويُقتل أطفاله فلا يُسمع منه إلا قول “الحمد لله” و” في سبيل الله” الأمر الذي يدفعهم للبحث عما يكون سببًا خلف هذا الاحتمال أنه القرآن فيقرأونه، وأنه الإسلام فيقبلون عليه ويدخلون في دين الله أفواجًا.
وليس ذلك وحسب، بل إن الشعوب العربية والمسلمة تغلي كغليان المرجل على سلوك زعمائها وعدم قيامهم بالحد الأدنى لكسر الحصار وإنهاء التجويع عن أطفال غزة ونسائها، هذا الغليان الذي سيغيّر وجه المنطقة، وإن غدًا لناظره قريب..
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.