معركة الوعي (186) خياران أمام نتنياهو لا ثالث لهما
حامد اغبارية
في كل يوم جديد يمرّ على الحرب الإسرائيلية على غزة يتضح لك أن استعراض العضلات على الشاشات شيءٌ والواقع شيءٌ آخر مختلف، وربما معاكس كليا. فأنت تشاهد وتسمع على الشاشات (الإسرائيلية والغربية) على مدار الساعة قادة الاحتلال من سياسيين وعسكريين، ومن خلفهم كتائب إعلامية وأسراب من “المحللين” أن طاحونة حربهم على الشعب الفلسطيني ستحرق الأخضر واليابس ولن تتوقف حتى تحقق أهدافها المعلنة.
نعم، هناك خطة صهيونية إسرائيلية- أمريكية غربية صليبية تهدف إلى إغلاق ملف قضية الصراع على فلسطين نهائيا، وما الحرب الدموية المجنونة على غزة إلا إحدى الوسائل لتحقيق ذلك، ولكن بين الأحلام والواقع كما بين الثرى والثريا. وقد رأينا ورأى العالم أن الواقع الميداني في غزة فرض على الاحتلال شكلا مختلفا من التعاطي مع القضية.
وعليك أن تكون قارئا جيدا للنفسية الإسرائيلية في تعاطيها مع السياسة ومع الظروف المحيطة، سواء كانت ظروفا ثابتة أو متغيّرة طارئة. وفي هذه الحالة ليس مهما إذا كانت القيادة الإسرائيلية يمينية أو يمينية متطرفة أو يسارية. فالمنطلق الإسرائيلي مرتبط بمصلحة البقاء بأي ثمن. وفي هذه الحالة فإنه لا يهم أن تكذب ثم تكذب ثم تكذب، ثم تقرر شيئا مساء وتقرر عكسه صباحا، لأن المصلحة تقتضي ذلك، ولأن الأنباء الميدانية لا تبشر بخير، ولأن المجتمع الإسرائيلي قد أتقن التعايش مع قيادة تكذب عليه وتخدعه حتى اعتاد على هذه الحالة وأصبحت جزءا من كينونته.
إزاء ذلك فإن أمام حكومة نتنياهو، وتحديدا مجلس الحرب المصغر خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما مواصلة الحرب والاستمرار في هدم البيوت وسحق أجساد الأطفال والنساء والشيوخ تحتها، دون أن يحرك العالم “المتحضر” ساكنا، بل بمشاركة وتواطؤ من هذا العالم الذي يبدو الآن في أجلى صور وحشيته وساديّته وتعطشه للإبادة الجماعية، ضاربا عرض الحائط كل قانون دولي أو إنساني.
وإما أن يتوقف عن هذا الحد ويبدأ بالتفاوض حول واحد من أكبر الملفات التي بذل الاحتلال كل ما يملك من بطش ودهاء سياسي كي لا يصل إليه؛ وهو ملف الأسرى وملف الحصار على غزة وبينهما قضية القدس والمسجد الأقصى المبارك، وما يتبع ذلك من شروط سيجد الاحتلال نفسه مجبرا على القبول بها أو بأغلبها.
ليس هناك خيار ثالث.
أما خيار الاستمرار في الحرب المجنونة فهو يعني الاستمرار في تضييق الخناق الدولي على الاحتلال الذي بدأ يدرك أن انفضاض الدعم الغربي الصليبي له بات قاب قوسين أو أدنى.
ومواصلة الحرب يدرك قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين أن نتائجها غير مضمونة، وليس هناك صك انتصار ينتظرهم عند معبر رفح، بل ربما تكون النتائج على العكس تماما.
خاصة إذا ما واصل الاحتلال ارتكاب حماقاته العسكرية ضد المدنيين، الأمر الذي قد يدفع أطرافا إقليمية إلى التحرك والتدخل العسكري المباشر، ما يعني توسيع رقعة الحرب.
وهذا ما لا يريده الاحتلال ويبذل على المستويات الدبلوماسية من خلف الكواليس كل ما يملك من قوة ووسائل لمنعه.
لذلك ليس أمام الاحتلال إلا الخيار الثاني الأقرب إلى الواقع الذي تفرضه الأحداث في ميدان المعركة، وهي أحداث يقرأها نتنياهو ومجلسه العسكري جيدا، وهو يعلم ويعلم مجلسه أنها ليست في صالحهم، وإن حاولوا إظهار الأمر بشكل مختلف.
سيضطر الاحتلال إلى التفاوض والقبول بالشروط التي ستكون هي فقط طوق النجاة من أوحال غزة. ولكن كيف سيحدث هذا؟
المسألة لن تكون مجرد صفقة لتبادل الأسرى ووضع ترتيبات معينة في غزة، كما يحاول الاحتلال الترويج من خلال ما يسمونه “تسريبات” حول المفاوضات الجارية حاليا، وإنما ستقود في نهاية المطاف إلى هدنة طويلة (تمتد لسنوات)، تقدم مخرجا لنتنياهو من ورطته وليبقى ملف غزة حاضرا بكل قوة.
هدنة تمنح الغزيين مساحة زمنية للنهوض من بين الأنقاض وإعادة إعمار ما دمره الاحتلال، وكذلك تنهي ذلك الحصار الظالم المتواصل منذ ما يزيد على ستة عشر عاما….