تراجع الأحزاب السياسية أمام “قوة العائلة” في انتخابات السلطات المحلية وتداعياته على العمل الوطني
ساهر غزاوي
تراجعت في السنوات الأخيرة، قوة الأحزاب السياسية والوطنية في المجتمع العربي بالداخل الفلسطيني، لصالح “قوة العائلة” والنزعة الحمائلية في انتخابات السلطات المحلية، ومع اقتراب موعد الانتخابات المقررة في نهاية شهر أكتوبر/ تشرين أول من العام الحالي، بدأ المرشحون في التحضر لحملاتهم الانتخابية وتميزها في معظم الحالات التوجهات العائلية والحمائلية للمرشحين.
وثمة مؤشر اعتبره البعض خطيراً من شأنه أن ينعكس سلبا على الحياة السياسية ومن خلال ترسيخ العائلية والحمائلية بمفهومهما السلبي والمسيطر، لا سيما أن نتائج الانتخابات الأخيرة التي جرت سنة 2013 أبرزت السيطرة العائلية على معظم المجالس المحلية، في حين لم تتجاوز الأحزاب السياسية نسبة قليلة جدا من بين 85 سلطة محلية في المدن والبلدات العربية.
وتناول موقع “موطني 48” هذه النتائج والمؤشرات وانعكاساتها على المجتمع العربي الفلسطيني وطرح تساؤلات أخرى على مختصين ومتابعين للشأن المحلي بهذا الخصوص.
لماذا فشلت الأحزاب؟
الباحث والمحلل السياسي صالح لطفي يجيب عن هذا السؤال ويقول: “يمكننا رصد العديد من الأسباب التي أدت إلى فشل مرشحي الأحزاب منها ما له صلة مباشرة بالأحزاب ومنها ما له علاقة بالحمولة وأخرى في المناخ السياسي العام”.
ويتابع: “في سياق الاحزاب نحن نشهد منذ أكثر من عقدين تراجعا كبيرا في النشاط الحزبي ودوره في الحياة العامة كفاعل أساس في عمليتي التثقيف السياسي والتنشئة السياسية وحمل هموم المجتمع والدفع به، وهذا بدوره ينعكس على كافة المرافق ذات الشأن السياسي-المجتمعي خاصة بعد أن اضحى سقف هذه الأحزاب هو الكنيست وأضحت مفاعيلها السياسية لا تتجاوز هذا السقف باعتبار ان نشاطها “البرلماني” يشكل بديلا عن نشاطها المجتمعي، في الوقت ذاته لم تختف الحمولة قط عن مشهد الانتخابات المحلية وعادت في الكثير من البلدان لتتبوأ مكانتها في ظل حالة التفكك المجتمعي وشعور “الفرد” ابن الحمولة بالحاجة إلى هذا “الجسم” لحمايته والدفاع عنه خاصة في ظل استشراء العنف وفشل مؤسسة الحزب بحمايته”.
“المناخ السياسي العام المتمثل في الملاحقات السياسية لبعض الاحزاب والحركات وبعض الرموز السياسية في الداخل ترك آثاره على الفعلين السياسي الحزبي والفردي” يضيف الباحث لطفي.
وأضاف أنه إلى جانب سياسات المؤسسة في السنوات الاخيرة حيث تنشط لتحويل السلطة المحلية إلى أداة من أدوات سيطرتها على المجتمع بعد أن شهدت عقود السبعينات وحتى بداية الالفية الحالية تجددا في العمل البلدي وتحوله إلى ذراع وطني له مفاعيله الخاصة علما أن المؤسسة أرادت من تأسيس هذا الجسم إبقاء أدوات سيطرتها على المشهد المحلي بعم غياب الحكم العسكري.
وفي هذه النقطة، يؤكد الباحث د. إبراهيم خطيب أن هناك تراجعا ملحوظا للعمل الحزبي ويرى أن نسبة الأعضاء والرؤساء المحزبين في انتخابات السلطات المحلية لعام 2013 لا تتجاوز 9% والمؤشرات تفيد بأن هذه النسبة لن تزداد بل يمكن أن تتراجع”.
ويعزو خطيب ذلك لعده أسباب منها: أن الاحزاب تركّز على العمل القطري وتهمل العمل المحلي بشكل كبير مما يجعل ناشطي الأحزاب بعيدين عن الشأن المحلي وأقرب للأمور القطرية. ويضيف أن “هناك عاملاً مهماً يجعل من نجاح الأحزاب في الانتخابات المحلية موضع شك، هو قلة العمل على التثقيف السياسي والاهتمام بالصالح العام بين الناس ليكون النقاش الانتخابي في نطاق الافكار وليس الانتماء الهوياتي الضيق، وبالتالي في الواقع فإن المحزبين محلياً قلة وداعموهم كذلك قلة، ناهيك عن حاجة الناس لرؤية نموذج وموديل حزبي ناجح يحتذى في السلطات المحلية ليدعموه”.
أمّا الدكتور مطانس شحادة الأمين العام للتجمع الديمقراطي فيرى أن تراجع الأحزاب السياسية في انتخابات السلطات المحلية يعود لطبيعة الانتخابات ومركزية العائلية في البلدات العربية، “كون السلطة المحلية سلطة تنفيذية لها ميزانيات كبيرة وتوظف عددا كبيرا من الموظفين، وبسبب الأوضاع الاقتصادية الرديئة تتحول إلى مشغل هام ومصدر تأثير كبير في المجتمع العربي، من جهة ثانية كان هناك تراجع في عمل الأحزاب العربية على المستوى المحلي، هذا ساهم في تراجع الأحزاب”، يقول د. شحادة.
وقال شحادة إن هناك عامل آخر، وهو أن المرشحين من الأحزاب السياسية كانت نسبتهم ضعيفة مقارنة بمرشحين آخرين، ولفت إلى أن هناك بعض الأخطاء التي قامت بها الأحزاب الرئيسية، مثل الناصرة، بحيث لم تتجدد الأحزاب ولم تضم قيادات شابة جديدة وبقيت على ذات المرشحين، بينما المجتمع يريد التغيير، وبالتي فإن الأحزاب لم تطرح مرشحين أقوياء للمنافسة، خاصة في المدن الرئيسية.
عائلية عميقة
وفي سؤالنا للباحث صالح لطفي عن اتجاه مجتمعنا للعائلية أجاب: “في السياق العام فإن الجماهير العربية تفرق بين الانتخابات المحلية التي يتم فيها بناء عقد اجتماعي ذو خصوصيات محدودة تتقدم فيها اولويات محلية على حساب الاولويات القطرية، بحيث تكون القضايا ذات البعد اليومي والمطلبي وتلبية مطالب “المواطن-البلدي” هي الأساس الحاسم للعلاقة بين المنتخِبْ والمُنتَخَبْ فضلا عن مجموعة قضايا خاصة ذات طابع عائلي -حمائلي غارقة بالشخصانية ومصالح هذه الحمائل ومن معها من الشركاء، وسبب آخر في رأيي يعود إلى أن السلطة المحلية هي المشغل الكبير للأكاديميين المتخرجين، كما انها تستطيع بسبب السياسات المساهمة في هذا الصدد من الحكم المركزي الذي يطمح بإعادة سيطرته على الداخل الفلسطيني من خلال وكلاء اضحت السلطة المحلية في المقدمة، ولذلك فالسلطات المحلية بسبب وجود فرص عمل دائمة وجدت نفسها تمارس دورا قياديا تدرك من خلاله أن ما تفعله من توظيفات يستثمر انتخابيا”.
من جهته قال د. خطيب: “إن مجتمعنا ما زال مجتمعاً عائلياً يطغى عليه الانتماء الأولي للعائلة والحمولة على الانتماءات الاخرى”، ويضيف أن “هذا الانتماء أو قل شدته تتغير وفقاً لحجم العائلة او الحمولة، بالإضافة إلى عدم وجود بديل حزبي قوي ونقاش في الصالح العام صادق وواضح وتثقيف سياسي معمّق يترتب عليه التصويت لمرشح حزبي وتشجيع المنافسة على أساس حزبي وسياسي يجعل المرشح العائلي صاحب الحظ الأوفر في الفوز في انتخابات السلطات المحلية”.
“تفضيل الناس للمرشح العائلي لعدة منطلقات منها أن المرشح الحزبي يمكن أن يخدم مصالحي إذا ما كنت ابناً لهذه العائلة ويمكن المنفعة منه، ناهيك عن البعد النفسي الملازم لنجاح مرشح العائلة والذي يتصوّره أبناء العائلة على أنه موضع فخر ومكان أنفة وتفوق على الاخرين وهنا يأتي مفهوم الزعامة و”الكرامة” التي يراها الناس بنجاح مرشح عائلتهم في الانتخابات، ناهيك عن قوة الرباط الحمائلي”، وفق أقوال خطيب.
وكذلك أكّد د. شحادة أن العائلية لم تختف ولا مرة عن انتخابات السلطات المحلية وهي متواجدة كل الوقت، مشددا على وجوب العمل على تحجيمها وتقليل تأثيرها.
تداعيات
يرى الدكتور شحادة أن نجاح العائلية وتراجع الأحزاب السياسية له تداعيات سلبية على العمل الوطني، ويضيف “أن تكون العائلة ذات أبعاد سياسية، أو تسييس العائلة يضر بالعمل الوطني، يجب ان تكون تعددية سياسية وانتماءات حزبية داخل العائلات لكي نكسر الانتماءات القبلية وتطوير وتحديث المجتمع، وعلى المنافسة المحلية أن تكون سياسية ووفقا لقدرات المرشحين وطرحهم السياسي والانتخابي أي البرنامج الانتخابي وخطة العمل لتطوير البلدات العربية وليس الانتماءات العائلية”.
ويعتقد الباحث صالح لطفي أن “تغول الحمولة وتسيسها تسيسا مشوها بسبب العلاقة “المصلحية” التي حدثت بين الأحزاب والحمائل في العشريتين الأخيريتين له تداعياته السلبية وله إسقاطاته السلبية أيضا سواء على العمل الوطني العام أو على العمل المجتمعي محليا، ولعل مراجعة متواضعة في السنوات الأخيرة لرفض بعض رؤساء السلطات المحلية استضافة نشاطات وطنية بعينها سواء كان هؤلاء الرؤساء مستقلين او حمائليين أو نصف مُحَزبين يميط اللثام عن الحالة السلبية التي بدأت تدخل مجتمعنا”.
ويؤكد أنه “بالإمكان تجاوزها وإعادة الامور الى نصابها الصحيح من خلال خلق معادلات تُكَيف العائلات للعمل الوطني وتحزبها وليس العكس بمعنى ان لا يذوب الحزب في إطار منطق مصالحه الضيق في العائلة او الحمولة لتكون الحمولة هي الحزب والعكس صحيح وهذه حالة مرضية استشرت في بعض قرانا ومدننا”.
وفي هذا السياق يشير لطفي إلى أن السلطات تفضل التعامل مع الاجسام العائلية لأنها لا تملك رؤى سياسية أو أيديولوجيا أو برامج عمل كما أن العائلة لا تتجاوز حدود البلدة التي “تحكم ” إلى جانب ان العائلات عادة ما تخترق من قبل السلطات وبفضل هذا الاختراق يتم تمرير سياسات تسعى السلطة المركزية لتمريرها أو إسقاطها الى تلكم المجتمعات، ومن ثم فهناك سهولة كبيرة من قبل السلطات للتعامل مع مثل هذه الشخصيات وتنفيذ برامجها بل وتحويلها إلى اداة لتنفيذ بعض سياساتها أذ تغض السلطة المركزية الطرف عن فساد ومحسوبيات مثل هذه السلطات المدارة حمائليا والتي تنفذ اجندات عائلية لصالح تمرير سياسات سلطوية مثل: الخدمة المدنية والتعامل المباشر مع الشرطة وتفعيل لجانها المحلية التي تسعى الشرطة لتعزيز وجودها في مدننا وقرانا المحلية وتبييض وتحسين سياسات المؤسسة اعلاميا.
ويرى د. إبراهيم خطيب أنه إذا أقامت الأحزاب تحالفات عائلية يمكن أن تضمن تفوقها ولكن هذا بحد ذاته معيب بحق الاحزاب إذا تم ضمان التفوق على المنافسين لكونها تشجع العائلية على حساب البرامج والافكار ومصلحة المواطن وتعزز النفس العائلي.
ويتابع: “العائلة والترابط العائلي جيد في باب صلة الأرحام وقرب الناس من بعضها ولكن ليس على الحق والباطل وحساب الصالح العام، لكن في إدارة السلطات المحلية الواقع معقّد لكون الإدارة العائلية يترتب عليها بالغالب أو على الأقل وفق الواقع اهتمام بمصالح عائلية، عدم وجود مرشحين أكفاء في بعض الأحيان، وتوزيع المناصب لإرضاء العائلية وأبنائها وأن تكون الإدارة غير مهنية وأحياناً فيها عدم انسجام إذا ما انعكس الصراع الحمائلي في البلدة على المجلس وموظفيه. معاييرنا لاختيار رئيس السلطة المحلية يجب أن تنبثق من المهنية، الامانة، القدرة على العمل للصالح العام وليس المعايير العائلية التي لا تنفع في إدارة سلطة محلية منوط بها الاهتمام بهموم المواطن الحياتية والتعامل مع السلطات الرسمية ومعالجة مشاكل التخطيط البناء والأراضي والتعليم وغيرها من الأمور”.
المشهد القادم
وعن كيفية المشهد القادم وهل ستعود الأحزاب لتولي إدارة السلطات المحلية العربية يجيب صالح لطفي ويقول: “في ظل تراجع دور الأحزاب إن كان في أدائها السياسي أو المجتمعي، وفي ظل حالة التراجع المجتمعي وانتشار العنف ومشاهد تفكك المجتمع برز دور العائلة بقوة على حساب الأحزاب التي فشلت في تقديم الحلول. وفي ظل تغلغل المؤسسة الاسرائيلية وفرض أجنداتها على تلكم البلدان وفي ظل ارتفاع منسوب الفردنة والشخصنة وتراجع المصلحة العامة لصالح الفردية والشخصانية، وتراجع الاهتمام بهموم مجتمعنا محليا وفقدان الامن وعودة الحمولة والعائلة لتمارس دور الحامي والمدافع ومع وظواهر الاستهلاك أرى أن آمال الأحزاب في تولي السلطات المحلية جد ضعيفة خاصة أنها لم تفعل شيئا يذكر في سياقاتها المحلية ابتداء من تعزيز الوعي السياسي وانتهاء بطرح حلول للقضايا والمشاكل العالقة التي تعيشها مجتمعاتنا المحلية”. ويضيف، “لذلك أرى أنَّ المرشحين الحمائليين وبعض التوافقيين هم من سيستأثرون في المشهد الانتخابي المحلي سواء في المدن الكبرى أو في القرى، هذا ما حدث في انتخابات 2013 ولا أرى أن المشهد الانتخابي سيتغير كثيرا عن الانتخابات السابقة”.
وفي هذه الرؤية يوافق كلاً من د. إبراهيم خطيب ود. مطانس شحادة الباحث لطفي حول المشهد القادم ويؤكد خطيب أنه “وفق المعطيات من السنوات الأخيرة يبدو المشهد القادم قاتماً”، ويضيف: “دور الأحزاب في تراجع على الصعيد القطري فما بالك بالصعيد المحلي، ولكن يبقى الأمل بصحوة الشباب والمثقفين وتجسيد تعليمهم وثقافتهم في الحيز العام المحلي لتكون أداة ورافعة ليصبح عمل السلطات المحلية أكثر مهنياً والترشيح فيه مبني على أساس القدرات والصالح العام وليس الانتماء العائلي الضيّق”.
بيدَ أن خطيب يرى بصيص أمل رغم قتامة المشهد ويقول: “إن مجتمعنا في السنوات الاخيرة يمر بموجة تعليم متزايدة وبرأيي يكمن التحدي في أن تنعكس هذه على ثورة مفاهيم بنشرها في المجتمع وبين اقرانهم ومحيطهم تقول إن الصالح العام ومهنية السلطة المحلية أهم من كل انتماء عائلي ضيّق”.
أمّا شحادة فيرى أنه على الاحزاب أن تبذل جهداً كبيراً للعودة بقوة إلى رئاسات سلطات محلية وأن تكون المنافسة سياسية ووفقا لبرامج يطرحها المرشحون وليس وفق الانتماءات العائلية. وقد يكون مكان للتعاون بين الأحزاب لتحقيق ذلك في عدد من البلدات العربية خاصة الكبيرة والمركزية منها، لافتا إلى أن حزبه (التجمع) سيعمل على طرح عدد من المرشحين في البلدات العربية والمنافسة أيضا على العضوية باسم التجمع للتأثير على المشهد الانتخابي المحلي وتسييس الانتخابات ومحاولة تقليل قمن قوة العائلية السياسية لتنجيع وتطوير عمل السلطات المحلية العربية.