معركة الوعي (183) التراجع المتدحرج نحو الخروج “الآمِن” من غزّة سيناريو الهدنة الطويلة أم سيناريو الحرب الشاملة؟
حامد اغبارية
تشكّل أيام الهدنة الحالية فرصة لمحاولة قراءة السلوك الإسرائيلي الذي بدأ يأخذ شكلا مختلفا عن اللهجة الحادة التي تمثلت بالتدمير التام والتحرير الأكيد؛ تدمير سلطة حماس في غزة وتحرير الأسرى الإسرائيليين في غزة بقوة النيران.
لقد وجدت المؤسسة الإسرائيلية نفسها، بعد نحو شهرين من القتال، في موقف من أصعب المواقف التي عايشتها منذ تأسيسها، إن لم يكن أصعبها على الإطلاق. فهي من ناحية “إمبراطورية” عسكرية إقليمية يُخشى جانبها، وتقف خلفها أعتى قوة عسكرية على كوكب الأرض؛ تقف خلفها عسكريا واقتصاديا وسياسيا، ومن ناحية أخرى لم تقترب حتى الآن قيد أنملة من تحقيق الأهداف التي حدّدتها، بل اضطرت إلى التراجع أمام واقع ربما لا نعرفُ خفاياه وأسراره، لكننا نلمس آثاره ونتائجه. فحجم الخسائر الإسرائيلية الذي حاولت ماكينة الإعلام (العسكري والمدني) إخفاءه بدأ يتكشف، وما سيتكشف لاحقا أكبر، الأمر الذي سيسبب للمجتمع الإسرائيلي صدمة أخرى، لا يمكنه تحمّلها.
فما الذي أدى إلى كل هذا التراجع المتسارع في مواقف حكومة نتنياهو؟ ما الذي دفعها إلى قبول الهدنة، بعد أن كانت قد أعلنت على الملأ أنها سيطرت على شمال القطاع وعلى مدينة غزة، وأنها لن تتراجع ولن تتوقف حتى النهاية؟ وهل قضية الهدنة الحالية هي مسألة مؤقتة لتبادل الأسرى من المدنيين ثم تستأنف بعدها الحرب المجنونة؟ أم أن هذه الهدنة التي يبدو أنها ستمتد أياما إضافية، هي عمليا مدخل لما هو أكثر وأكبر؟
لحظة بعد لحظة، ويوما بعد يوم تتضح الصورة شيئا فشيئا، لتكتشف أن شمال غزة ومدينة غزة لم يقعا تحت سيطرة الاحتلال، وأن ما يقال في التصريحات لا يعكس الواقع ولا الحقيقة على الرغم من مشاهد الدمار الهائل وأعداد الضحايا من المدنيين الغزيين، خاصة الأطفال والنساء. ومن ثم تكتشف أن حكومة نتنياهو وجدت نفسها في ورطة يصعب الخروج منها إلا بطريقة واحدة: التنفيس المتدحرج حتى الوصول إلى الخروج بأقل ما يمكن من الخسائر: العسكرية والسياسية.
لم يكن التراجع في المواقف مقصورا على المؤسسة الإسرائيلية، بل أيضا على إدارة بايدن، إضافة إلى مواقف بعض الدول الأوروبية التي خرجت قبل نحو شهرين عن بكرة أبيها لتدعم تل أبيب دون تحفظ وبشيكات مفتوحة!
ولعلّ إدارة بايدن (الديمقراطية) قد أدركت مع مرور الوقت والنتائج الصفرية للحرب، وما يتوفر لديها من معلومات استخبارية، وما يجري أمام عينيها على المستوى الشعبي الأمريكي والعالمي؛ لعلها قد أدركت أن البساط قد بدأ يُسحب من تحت قدميها، وأن الثمن الذي ستدفعه في الانتخابات القادمة (بعد أقل من سنة) سيكون خسارة مدويّة، وهو آخر ما تريد أن تتخيله. هذا إضافة إلى أن الموقف الداعم لتل أبيب بالصورة التي شهدناها قد أفقدت واشنطن بقايا “دور الوسيط” الذي خدعت به العالم العربي طوال عقود. لذلك بدأت تخرج عن تلك الإدارة، سواء البيت الأبيض أو البنتاغون أو المخابرات، تصريحات يلمس فيها المراقب تراجعا حذِرًا، يحمل في طياته بحثا عن مخارج وحلول غير عسكرية للمشهد في غزة.
وليس أدل على ذلك من الجهود الحثيثة والتي بلغت ذروتها (حاليا) باجتماع أقطاب أجهزة المخابرات الأمريكية والمصرية والإسرائيلية في قطر. فاجتماع مسؤولي المخابرات يعني- بطبيعة الحال وكما هو معلوم- أنه يجري البحث عن مخارج وآليات ووسائل لوقف الحرب…
وأستطيع أن أتخيّل أن المجتمعين في قطر وضعوا على رأس نقاط البحث البند الأهم: كيف نعمل على وقف الأعمال القتالية دون أن تخرج تل أبيب بصورة المهزوم؟ أو بكلمات أخرى: كيف يمكن توفير “صورة انتصار” لنتنياهو تمكّنه من تسويق ما سيحدث بعد ذلك من اتفاقات أو تفاهمات لا علاقة لها باللهجة الحادة الواثقة التي بدأ بها المشهد، والتي ما تزال بعض قيادات الجيش، وعلى رأسهم وزير “الأمن” جلانت، ترددها للتسويق الداخلي ولإرضاء الغرور الإسرائيلي الذي “لا يستطيع أن يعترف بالهزيمة”، كما في النسخة القديمة المتمثلة بحرب رمضان 73.
مما يبدو من المشهد الحالي فإنه سيجري تمديد أيام الهدنة على شكل دفعات صغيرة. وهذا لا يحدث عبثا، بل هو إحدى وسائل تجهيز الرأي العام الإسرائيلي للتعامل بالقبول مع “صفقة كبرى” يجري الإعداد لها الآن في الدوحة. وهي صفقة لا تشمل فقط تنفيذ مبدأ “الكلّ مقابل الكلّ”، أي إطلاق الأسرى من العسكريين الإسرائيليين مقابل تبييض السجون الإسرائيلية، بل التوصل إلى هدنة طويلة الأمد، قد تمتد إلى ثلاث أو خمس أو عشر سنوات، وهو ما ألمحتُ إليه في مقال سابق. وهي هدنة سيرجع بها نتنياهو ليقول لشعبه إنه استطاع تحقيق هدف توفير الأمن لهم لسنوات قادمة طويلة، تمكّنهم من العودة إلى حياتهم الطبيعية. وهذا- بحكم التجربة- أهم ما يسعى إليه الإسرائيلي العادي الذي لا يهمه شيء أكثر من الشعور بالأمن الشخصي، حتى لو كان ذلك شعورا مؤقتا…
ومن خلال ذلك سيبذل نتنياهو كل جهد كي ينجو مما ينتظره من ملفات جنائية “جمّدتها” الحرب، ومن محاسبة على الفشل الأمني في السابع من تشرين الأول الماضي.
وأذكّر بمقولة رددها نتنياهو قبل سنوات قليلة حين صرّح بأنه يعِد شعبه بالحفاظ على الدولة حتى تبلغ مائة عام!! دون أن نغفل تصريحات أخرى لسياسيين إسرائيليين، أمثال إيهود براك، الذين تحدثوا عن لعنة الـ 80، التي لها علاقة وثيقة بالنبوءات التلمودية…
وماذا عن الطرف الآخر؟
لقد أحدثت الحرب دمارا غير مسبوق في غزة، ربما لم يحدث مثله في أي مكان آخر في العالم. وغزة الآن تحتاج هي الأخرى إلى هدنة طويلة تتمكن خلالها من إعادة الإعمار والتقاط أنفاسها واسترداد عافيتها…
غير أنّ لكل هدنة شروطها. وأستطيع أن أتصور أن غزة لن تقبل بهدنة طويلة دون أن تحقق فك الحصار ووقف الاعتداءات على المسجد الأقصى….. وكل ما يتعلق بمستقبل الصراع على فلسطين…
وتبقى كل هذه القضايا مجرد احتمالات واردة بحضور قوي، إلا أن سلوكا جنونيا آخر من طرف تل أبيب من خلال مواصلة الحرب بعد انتهاء تبادل الأسرى المدنيين قد يهدم كل شيء…. ولكن…!
إذا ما مضت تل أبيب في حربها، فما الذي، ومَن الذي سيمكنه الحيلولة دون توسع رقعة الحرب إلى حرب إقليمية قد تقود إلى ما هو أكبر وأكثر وأشد إيلاما؟؟
أعتقد أن واشنطن غير جاهزة وغير مستعدة ولا تريد أن يحدث هذا، ولذلك ستمارس كل ما يمكنها من الضغوط على تل أبيب بالوسائل التي تتقنها جيدا كي تتوقف عند هذا الحد….. ولو إلى حين.
وماذا عن إنهاء سلطة حماس في غزة، والذي به يزول شبح التهديد المتواصل للمؤسسة الإسرائيلية؟
ليس لدى واشنطن ولا أي طرف آخر ذو تأثير عصا سحرية لتقديم الحل. لكن واشنطن ستعمل- كالعادة- على تحويل المعركة إلى “معركة سياسية”، تحاول من خلالها إدخال الأطراف كلها في دوامة البحث عن حل بالوسائل الدبلوماسية…. وهذا ما بدأت بوادره تظهر على السطح في الأيام الأخيرة في الكثير من التصريحات القادمة من واشنطن ومن عدد من العواصم الأوروبية.
والسؤال الأهم: من هو الطرف الذي ستكون له الكلمة الأخيرة في هذا الفصل من كتاب الصراع؟