حصوننا الأربعة فلا تبرحوها
الشيخ كمال خطيب
في أيام البلاء وفي ظروف الكرب وفي زمن الشدة، فإن شياطين الإنس ومثلهم شياطين الجن، يشحذون هممهم وطاقاتهم وينشطون فلا يتعبون ولا يكسلون، وإذا فشلوا في محاولة فإنهم يعاودونها ثانية. إنه مشروعهم المتمثل بالوسوسة والبلبلة في نفوس وقلوب وعقول المسلمين، يثيرون في أنفسهم تساؤلات مثل: إذا كنا من أهل الحق فلماذا يسلط علينا أهل الباطل؟ أين نصر الله الذي وعد به المسلمين وهو الذي قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} آية 7 سورة الصف، ولماذا لا يدافع الله عن الذين آمنوا؟ {إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ} آية 38 سورة الحج؟
هذه وغيرها من تساؤلات مريبة يوسوس بها شياطين الإنس والجن ويثيرونها في نفوس وعلى ألسن أبناء الإسلام والإيمان، في محاولة منهم لتشكيكهم بدينهم وانتمائهم، ولإدخال الريبة والشك في العلاقة مع خالقهم سبحانه، ولعله يصل بهم إلى حد أن يكفروا بربهم وتاريخهم وماضيهم، بل وبأنفسهم، فنعوذ بالله من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.
وأمام هجمة شياطين الجن والإنس، وأمام سيل وساوسهم ومحاولات صدهم عن سبيل الله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} آية 36 سورة الأنفال، فلا بد للمسلم من معرفة بعض الحقائق هي بمثابة حصون بها يتحصن المسلم ويلجأ إليها فيرد بها وساوس شياطين الإنس والجن.
الحصن الأول
إنَّ على المسلم أن يعرف ويتذكر أن من سنن الله في الكون وهي تجري على كل الناس ولا ينجو ولا يخلو منها المسلم وهي تنزل بساحته، كأن يفشل في عمل، أو يموت له حبيب، أو يمرض هو أو قريب له، أو يخيب أمله في شيء كان يود أن يتحقق، أو يفقد مالًا أو ينزل به بلاء أيًا كان، فإذا كانت هذه من أنواع البلاء الذي يصيب كل الناس مسلمين وغير مسلمين، فإن أصحاب الدعوات وحملة الرسالات ومن يرفعون راية الإصلاح والتغيير ويتقدمون الصفوف سينالهم مثل هذا وأكثر منه.
إنهم يدعون إلى الله فيحاربهم الطواغيت وحزب الشيطان، إنهم يرفعون راية الحق فيتحداهم أصحاب راية الباطل، إنهم يدعون للخير فيعاكسهم أنصار الشر، إنهم يأمرون بالمعروف فيعاديهم أهل المنكر. إنها سنة الله في وجود الشيء وضده، فهو سبحانه الذي خلق آدم وخلق إبليس، وخلق إبراهيم والنمرود، وخلق موسى وفرعون، وخلق محمد وأبا جهل {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَٰطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍۢ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا} آية 112 سورة الأنعام. {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ} آية 31 سورة الفرقان. {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلَّآ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ} آية 8 سورة البروج.
وهنا وفي لحظة الوسوسة هذه ومحاولات اختراق الحصن الإيماني للمسلم، فإن عليه أن يتذكر ويذكّر نفسه بهويته وانتمائه أنه من أهل الإسلام وليس من أهل الكفر، ومن أهل الحق وليس من أهل الباطل، ومن أهل الفضيلة وليس من أهل الرذيلة، ومن أهل المعروف وليس من أهل المنكر، ومن حزب الرحمن وليس من حزب الشيطان، وعليه أن يذكّر نفسه بأن مالك أمره هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا ندّ له ولا شريك، يفعل به ما يشاء ويختار له الخير حتى وإن كان في ظاهره الشرّ {وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ} آية 36 سورة الأحزاب، فإذا استقرت في نفسه هذه العقيدة فإنه سيصل إلى استنتاجين اثنين، أما الأول: فهو التسليم لحكم الله في كل ما يصيبه. وأما الثاني: فإنه الدعاء لله والتضرع له سبحانه والوقوف على بابه، يقول ما قاله ﷺ: “اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس”. ويقول ما قاله عيسى بن مريم عليه السلام لما ظهر له إبليس اللعين يومًا وقد قال له: ألست تقول أنه لن يصيبك إلا ما كتب الله لك وعليك؟ قال عيسى: بلا. قال له إبليس: فاصعد هذا الجبل وارم نفسك فإنه إن يقدّر لك السلامة تسلم. فقال له عيسى عليه السلام: يا ملعون إن لله أن يمتحن عبده وليس للعبد أن يمتحن ربه.
الحصن الثاني
إنّه على المسلم أن يكون على يقين بأن الله سبحانه لا يعطي مغنمًا بلا مغرم، ولا يأتي بيسر إلا بعد عسر، ولا فرج إلا بعد كرب، فهذه من سنن الله الجارية التي للمسلم أن يوقن بها فتكون حصنه الحصين في ظروف البلاء والكرب والعسر حيث تكثر وساوس الشيطان. ففي اللحظات التي يسدد شياطين الإنس والجن سهامهم المسمومة المغمسة بالتشكيك والتضليل والفتنة، يأتي فهم المسلم لدينه وفهمه لهذا الحصن وهو أنه لا مغنم بلا مغرم، ويتذكر قول الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} آية 139 سورة آل عمران. {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} آية 104 سورة النساء.
وإن المغرم قد يكون روحه وماله وممتلكاته، بل أبناءه وأحب الناس والأشياء إليه {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} آية 155 سورة البقرة، ولكن هذا يصبح هينًا تتقبله النفوس المؤمنة إذا كان المغنم والمربح هو عز الدنيا وجنة الآخرة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} آية 111 سورة التوبة. {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَٰرَةٍۢ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍۢ} آية 10 سورة الصف. {وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} آية 13 سورة الصف. ولقد ذكّرك ابن القيم رحمه الله أن هذا الطريق لست وحدك من سلكه، ولكن سبقك غيرك وهم كثير وهم أفضل عند الله منك فقال: “إنه الطريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، وألقي في النار إبراهيم، وتعرض للذبح اسماعيل، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى”.
الحصن الثالث
إنَّ مما على المسلم أن يرد به سهام شياطين الإنس والجن سهام التشكيك والفتنة خاصة في أيام البلاء والمحن، فيكون حصنه في ذلك فهمه بل يقينه أن لله سبحانه في أخذ الظالمين سننًا ونواميس ونظامًا لا بد أن يجري، وأن على المسلم أن يعلم أن أخذ الله الظالمين والطواغيت وحزب الشيطان يكون على مرحلتين:
– أما الأولى فإنها مرحلة الإمهال التي عنها قال الله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} آية 3 سورة الحجر. {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} آية 44 سورة القلم. {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} آية 3 سورة الحجر. {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } آية 7 سورة الطارق. {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} آية 44 سورة الأنعام.
– وأمّا المرحلة الثانية بعد الإمهال فإنها مرحلة الإهلاك، فعلى المسلم أن يعلم أن هذا ناموس كوني، وأن سنن الله تعالى لا تكون وفق ردود فعل على أفعال العباد، أي أنه سبحانه يُستثار فيثور فيستفز فينتقم فحاشاه سبحانه، وإنما نظامه وسنته وقانونه هو: “إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته”.
فابق في حصنك أيها المسلم واثبت على دينك ولا تستعجل الإمهال ولا الإهلاك لأن هذا يجري وفق ناموس الله، وأن الله سبحانه لا يستعجل لعجلة أحدنا، وأنه إذا املى للظالمين أو أمهلهم فليس حبًا لهم ولا رضا عنهم ولا غفلة عن أفعالهم ولا عجزًا حاشاه سبحانه، وإنما هو الإمهال الذي يسبق الإهلاك {وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} آية 102 سورة هود. {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} آية 82 سورة هود. {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} آية 55 سورة الزخرف. فعليك أيها المسلم وأنت في حصنك الإيماني أن تكون مطمئنًا وإياك وسهام التشكيك يطلقها شياطين الإنس والجن الذين يوسوسون لك، وأين الله مما جرى ويجري ليكون الجواب من مولاك سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} آية 1 سورة الفيل. {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ…} آية 6-7 سورة الفجر. ثم لنكن على يقين ونحن في حصننا الإيماني أن من سنن ونظام الله سبحانه أنه كلما أصابت الغفلة عباده، وكلما نسوا ربهم، وكلما ضعف يقينهم، فإنه كان يرسل لهم من يسومهم سوء العذاب ومن يضربهم بعصا التنبيه ومن يلطمهم لطمة الإيقاظ والصحوة، هكذا كان حالنا لما غفلنا يومًا فأرسل الله لنا الصليبيين فكانوا سبب يقظة، وأصابتنا الغفلة ثانية فأيقظنا الله بالتتار والمغول، وأصابتنا الغفلة من جديد فإنه سبحانه يوقظنا بأمريكا ومعسكرها وعجرفتها واستكبارها وسياساتها الظالمة.
وما أكثر العبر في الحوار الذي جرى يومًا بين شيخ الإسلام ابن تيمية وبين ابنة هولاكو زعيم المغول الذي دمّر بغداد. فبينما كانت ابنته تتجول في بغداد المنكوبة المحزونة وقد قُتل من أهلها مليونان من المسلمين وشرّد باقي أهلها وكان عدد سكانها يومها ستة ملايين، فكان أن سمعت ابنة هولاكو عن اسم يتردد على ألسنة الكثيرين، أنه شيخ الإسلام ابن تيمية فأمرت به أن يؤتى إليها مقيّد اليدين معصوب العينين.
فلما كان في مجلسها وقد أمرت بإزالة العصابة عن عينيه والقيد عن رجليه ودار بينهما الحوار، فسألته قائلة: عرفت أنك العالم الأكبر بين علماء المسلمين. فقال: إنما أنا عالم من علماء المسلمين. فقالت: إن الله الذي تؤمنون به ونكفر نحن به يحبنا ولا يحبكم، وقد نصرنا عليكم ولم ينصركم علينا وهو ربكم الذي يقول: {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ} آية 13 سورة آل عمران. قال ابن تيمية: أتعرفين راعي الغنم؟ قالت: ومن منا لا يعرفه؟ قال: أليس الغنم غنمه؟ قالت: بلى. قال: أليس لراعي الغنم كلاب تذهب معه إلى المراعي مع الغنم؟ قالت: بلى. قال: ما عمل الكلاب؟ قالت: تحرش وتحرس له غنمه وتنبح على الغنم فتعيد الشاردة منها إلى القطيع والحظيرة. قال ابن تيمية: إنه مثلنا ومثلكم كذلك، فالله سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى، هو راعي الغنم ونحن غنمه وأنتم كلابه، فلما تشرذمنا وتفرقنا بعد أن شبعنا فإنه سلّطكم لتنبحوا علينا حتى نرجع إليه، فإذا رجعنا إليه فإنه سيكف أذاكم ونباحكم عنا كما يقول الراعي لكلبه “إخص” فيلوي ذنبه ويسكت ويجلس جانبًا وتنتهي مهمة الكلاب فلا يعود يسمع أحد بنباحها.
الحصن الرابع
وإنَّ علينا أن نكون على يقين أن الله سبحانه يحمي ويحفظ المسلمين أفرادًا ويحفظهم أمة ويجعلهم في حصن حصين ببركة شفعاء في الأمة هم الصالحون وأهل القرآن والعلماء والأطفال، بهم يحفظ الله الأمة ويرفع عنها البلاء والهمّ والغمّ. إنهم أهل الله الذين قال عنهم النبي ﷺ: “بهم تنصرون وبهم ترزقون وبهم تغاثون”.
فعندما تعيش الأمة حالة الكرب والبلاء والمحن والفتن، وعندما تعيش الأمة حالة اللهو والغفلة والشرود عن الله الذي به تستحق العقوبة، فإنه سبحانه يجعل أولئك الصالحين هم صمام الأمان والدرع الواقي والحصن الحصين الذي يدفع الله به البلاء عن الأمة. وإذا كان الله قد قال لرسوله ﷺ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} آية 33 سورة الأنفال، فإذا كان رسول الله ﷺ سببًا لرفع البلاء والمحن والحماية من عقاب الله، فإن بعد رسول الله ﷺ يكون الصالحون وأهل الله وأهل القرآن والأطفال هم سبب تلك الحماية، إنهم المصلحون والأتقياء والأخفياء الذين لو أقسم أحدهم على الله لأبرّه، كما قال النبي ﷺ: “ربّ أشعث أغبر ذو طمرين لو أقسم على الله لأبرّه”.
ولذلك عندما خرج قتيبة بن مسلم في فتوحاته الواسعة، فكان من بين مرافقيه العالم الجليل والرجل الصالح محمد بن واسع. وخلال المعركة افتقده قتيبة بن مسلم فأرسل بعض جنوده يبحثون عنه، فوجدوه وقد رفع كفيه إلى السماء وقد اتكأ على قوسه ويرفع سبابته وهو يقول: “يا حي يا قيوم يا حي يا قيوم يا حي يا قيوم”، فرجعوا إلى قتيبة يخبرونه بما رأوا عليه وسمعوه من محمد بن واسع فدمعت عينا قتيبة فرحًا وقال: أبشروا فو الذي نفسي بيده لكف محمد بن واسع أحب إليّ من مئة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف شاب طرّير في سبيل الله”.
إنَّ أثر وبركة هؤلاء الصالحين والعلماء العاملين وأهل القرآن والأطفال، قد عرفه العلماء ولذلك كان إبراهيم بن عثمان الأشهبي الغزّي وقد خرج في تجارة ووصل إلى بلاد بلخ، وهناك استقر وأقام باقي عمره ولم يرجع إلى موطنه غزة، فكان في لحظات احتضاره يدعو الله ويقول: “اللهم اغفر لي لثلاث: اغفر لي لأني شيخ كبير، واغفر لي لأني غريب، واغفر لي لأني من غزة بلد الإمام الشافعي”.
إنه دعا الله بالمغفرة لأنه من غزة، بلده التي فيها ولد الإمام الشافعي. فكيف وغزة اليوم تُهدم فيها المساجد ويُقتل فيها حفظة القرآن ويُقتل فيها ستة آلاف طفل؟ يقينًا إن الله سيرفع عن أهل غزة البلاء كرامة لهؤلاء الشفعاء.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.