الضمائر المُتمردة
الشيخ رائد صلاح
لقد كشفت الكارثة الإنسانية في غزة أن كل الكُرة الأرضية باتت تُعاني من كارثة إنسانية عالمية سلبت إرادة شعوب الأرض مما جعل الكُرة الأرضية وشعوب الأرض مُحتلة في هذه الأيام، وهذا الوصف ينطبق- في نظري- على كل قارات الأرض، ولا يُمكن أن تُسْتثنى منها قارة، فكُلها مُحتلة سواء كانت آسيا أو أوروبا أو أفريقيا أو أمريكيا بشقيها الشمالي والجنوبي، بما في ذلك استراليا التي تقع في أقصى الأرض، وهذا يعني أن كل شعوب هذه القارات باتت مُحتلة اليوم، وإن ادّعت هذه الشعوب غير ذلك، فقد تدّعي أن لها كيان سياسي مُستقل ولها علم ولها حدود ولها نظام حكم ولها يوم تحتفل فيه باستقلالها أو ببداية تأسيسها، وقد تدّعي أنها تتمتع برخاء اقتصادي وببحبوحة عيش ورفاه حياتي وحُرية لهو وزينة، ومع ذلك لو صدقت هذه الشعوب مع نفسها ولو صارحت نفسها ولو نظرت إلى حقيقة حالها لوجدت أنها مُحتلة، ولا أستثني أي شعب من شعوب الأرض سواء كان الشعب الأمريكي أو غيره.
فها هي هذه الشعوب يُدفع بها اليوم لتخوض حروبًا تُصادم قناعاتها ومع ذلك تتحول إلى جنود في هذه الحروب، وترضى لنفسها أن تتقمص النفس الحيوانية المُتوحشة في هذه الحروب، وأن تُدمر وتحرق وتقتل وتقصف وتهدم كل ما يقف في وجهها من بُنيان وإنسان وشجر وحجر وحيوان، وهي لا تدري لماذا تقوم بذلك، ولماذا رضيت لنفسها أن تركب الطائرات الحربية وأن تُبيد مدنيين أبرياء ما بين طفل وامرأة ورجل وشيخ وعجوز، ولماذا رضيت لنفسها أن تتحصن في الدبابات وأن تدوس بعجلات دباباتها على الناس وهم أحياء، ولماذا رضيت لنفسها أن تنخرط في قوات مُشاة برية أو بحرية وأن تحمل السلاح وأن تُطلق الرصاص على كل ما يتحرك أمامها.
فهكذا فعل الشعب الأمريكي عندما سار مُكبًا على وجهه خلف جورج بوش الابن عندما غزا العراق، وهكذا فعل الشعب البريطاني عندما سار مدفوعًا بطاعة عمياء خلف توني بلير عندما انضم إلى غزو العراق، وقال يومها الفرعون جورج بوش الابن، والفرعون توني بلير أن العراق تملك سلاح دمار شامل، ولا بُد من غزوها، ثم لا بُد من نزع هذا السلاح منها، بهدف انقاذ البشرية!!، ثم تبين فيما بعد أن ادعاء وجود سلاح دمار شامل كان كذبًا مُلفقًا عن سبق إصرار لتبرير غزو العراق وتدمير العراق وإهلاك الحرث والنسل فيه!!، ولكن قبل أن يظهر كذب ذاك الادعاء المُتعطش لإزهاق الأرواح وإراقة الدماء لهث كل من الشعب الأمريكي والشعب البريطاني خلف ذاك الادّعاء الكاذب وساهموا بضرائبهم وأيديهم وصناعاتهم الحربية بإيقاع كارثة إنسانية على كل العراق، ما كان لها مثيل في كل تاريخ العراق حتى عندما احتل هولاكو بغداد!!
وهكذا تعاطى الشعب الأمريكي مع جورج بوش الابن كما تعاطى قوم فرعون مع فرعون، وكذلك كان حال الشعب البريطاني الذي تعاطى مع توني بلير كما تعاطى قوم فرعون مع فرعون!!، حيث أن فرعون كما قال عنه القرآن الكريم {استخف قومه فأطاعوه}، وهكذا استخف كل من بوش وبلير شعبه فأطاعوه طاعة فرعونية!!، وحيث أن فرعون قال لقومه كما قال عنه القرآن الكريم {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}، وهذا يعني أن فرعون طلب من قومه أن يسيروا خلفه كالقطيع ولا يعصُون له أمرًا، فالحق هو ما يراهُ هو فقط، والباطل هو ما يراهُ هو فقط، والحسن أو القبيح هو ما يراهُ هو فقط، والحُرية أو العبودية هو ما يراهُ هو فقط، وسائر القيم هو ما يراهُ هو فقط، فهو التقدمي الوحيد ومن عصاهُ فهو رجعي مُتخلف، وهو الحضاريّ الوحيد، ومن عصاهُ فهو حيوان على صورة انسان، فسار قوم فرعون خلف فرعون يُطبلون له ويُزمرون ويهتفون مُرددين: عاش فرعون.. عاش فرعون.. عاش فرعون…
وهكذا كان حال كل من بوش وبلير في غزو العراق، حيث كان لسان حال كل منهما مع شعبه أن قال لهم: ((ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد))، وهكذا وصل الانحطاط بقوم فرعون إلى أسفل درك، وأصبح شعبًا مُحتلًا لطاغية سفيه يُدعى فرعون، وباتت هناك حاجة لتحرير هذا الشعب المُحتل، فأرسل الله تعالى نبي الله موسى عليه السلام وأخاه هارون عليه السلام إلى فرعون، وقال نبي الله موسى عليه السلام لفرعون: {… هل لك إلى أن تزكى (18) وأهديك إلى ربك فتخشى (19)} سورة النازعات، على اعتبار أن الكشف عن زيف فرعون هو ضرورة لا بُد منها إلى جانب السعي لإنقاذ بني إسرائيل من عبوديته!!
ولعل قوم فرعون كانوا يظنون أنهم أرقى شعب في العالم، في الوقت الذي كانوا فيه مُحتلين، وهذا يعني أن الشعب الأمريكي والشعب البريطاني كانا مُحتلين يخضعان لسطوة احتلالين اسمُهما: احتلال بوش واحتلال بلير!!، وهكذا كان الشعب الأمريكي مُحتلًا عندما سار مُكبًا على وجهه خلف جورج بوش الابن وغرِق في غزو أفغانستان!!، وهكذا كان الشعب الفرنسي مُحتلًا عندما سار مُكبًا على وجهه خلف قصر الأليزية وغرِق في غزو دولة أفريقيا الوسطى وفعل بالمسلمين فيها الأفاعيل!!، وهكذا كان الشعب الروسي مُحتلًا عندما سار مُكبًا على وجهه خلف الكرملين وغرِق في غزو سوريا وعمِل فيها الخراب والدمار والتقتيل والتهجير!!، وهكذا كان الشعب الصيني مُحتلًا عندما سار مُكبًا على وجهه خلف قيادته الصينية منذ العقود التي لا تزال القيادة الصينية فيها تُواصل خنق أنفاس عشرات الملايين من المُسلمين الأيجور وغزو أرضهم ونهب خيراتهم!!، وهكذا كان الشعب الهندي مُحتلًا عندما سار مُكبًا على وجهه خلف الفرعون مودي ومن سبقه من فراعنة الهند الذين لا يزالون يُواصلون فرض سياسة التطهير العرقي على ملايين المُسلمين في الهند!!
وهكذا أصبحت الكرة الأرضية مُحتلة في شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، وأصبح يحكُمها عصبة فراعنة لا يرقبون في شعوبهم ولا في سائر شعوب أهل الأرض إلًّا ولا ذمة!!، وهكذا هي البشرية اليوم في أسوأ انتكاسة مرت عليها منذ نبي الله آدم عليه السلام.
ولكنّ الذي يُلاحظه كل عاقل أن الكارثة الإنسانية اليوم في غزة قد أيقظت ضمائر الملايين من الشعوب في كل الأرض، فهبت كل هذه الضمائر الحية تبحث عن انسانيتها في كل الأرض، وهبت تُسَيّر المُظاهرات بعشرات الآلاف ومئات الآلاف، بل إن مجموع المُشاركين في مجموعة مظاهرات سارت في لندن في الوقت نفسه بلغ المليون، وهكذا شهدنا زحف هذه المُظاهرات في واشنطن ونيويورك وباريس وبرلين ومدريد وبرشلونة وروما، والكثير من العواصم والمُدن الكبرى في كل العالم.
وهكذا انتفضت هذه الضمائر على الصعيد الإنساني، وها هي اليوم تصرُخ في وجه فراعنتها طالبة التحرر منهم ومن فجورهم السياسي والدبلوماسي والإعلامي والعسكري سواء كانوا يعيشون اليوم في البيت الأبيض أو غيره من بيوت سائر الفراعنة المُعاصرين وقصورهم!!، وكأن البشرية اليوم تُعلن تمردها على هؤلاء الفراعنة الذين أصبحوا على وشك أن يقول الواحد منهم لشعبه (ما علمتُ لكم من إله غيري)، لا بل إن الأرض باتت تشهد تمرد حُكام محدودي الضمان، رضوا لأنفسهم أن يكونوا فيما مضى وكلاء لهؤلاء الفراعنة المُعاصرين، وكأني بهؤلاء الحُكام المُتمردين مَلّوا الحياة السابقة التي قاموا فيها بدور وظيفي خدمة لهؤلاء الفراعنة المُعاصرين، وكم كان ذاك الدور الوظيفي مُصادمًا لضمائرهم، وها هم يقولون اليوم كفى لمواصلة إيقاع الكارثة الإنسانية على غزة، وهكذا انضموا إلى الشعوب المُتمردة على هؤلاء الفراعنة المُعاصرين، وسيكتب التاريخ أن الكارثة الإنسانية في غزة كانت السبب بإيقاظ ضمائر هذه الشعوب المُتمردة وهؤلاء الحُكام المُتمردين!!، ولأن البشرية لا ترضى لنفسها أن تبقى غارقة في لعنة هذه الفرعونية المُعاصرة فأنا على يقين أن البشرية اليوم أصبحت تنتظر ميلاد قيادة عالمية صالحة وراشدة تملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن مُلئت ظلمًا وجورا.