الصّراع لم يبدأ في 7 أكتوبر
ساهر غزاوي
لقد كسرت الحرب على غزة التي اندلعت يوم السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023 نمط الصراع الدائر على أرض فلسطين، وربما إلى الأبد، ولا خلاف أن هذه الحرب- “طوفان الأقصى” بالمسمى الفلسطيني، و”السيوف الحديدية” بالمسمى الإسرائيلي- لا تشبه السنوات الماضية التي منذ أن انسحب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005 وأخلى المستوطنات التي كانت في القطاع. ومنذ أن أعلنت إسرائيل عام 2007 غزة “كيانًا معاديًا”، وفرضت عليها حصارًا شاملًا لا يزال إلى اليوم، وهي تنفذ عمليات عسكرية في غزة من حين لآخر، بعضها تحول إلى حروب استمرت أسابيع وخلفت آلاف الشهداء، علمًا أن قطاع غزة يُعد من أكثر المناطق اكتظاظا بالسكان على صعيد العالم، حيث يقطنه نحو مليوني ونصف المليون فلسطيني في مساحة جغرافية ضيقة.
كذلك، لا خلاف أن هذه المنطقة كلها بعد تلك الحرب لن تكون كما قبلها، لا سيّما وأن هذا الحرب كما يظهر من مجرياتها تؤسس لواقع جديد تغيرت فيه الموازين ولم تعد فيه جهة واحدة صاحبة القوة الحاسمة والردع الكامل، خاصة في ظل توفر التكنولوجيا الحديثة والرخيصة نسبيًا والممزوجة بحروب غير متماثلة تخوضها تنظيمات وليست الجيوش النظامية.
بَيْدَ أن هذا الصراع المحتدم اليوم لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءته ولا الحديث عنه وكأنه صراع بدأ في السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023، أو في حزيران 1967 ولا حتى في أيار 1948، فسياق صراع اليوم غير منفصل بتاتًا عن أصل الصراع وجذوره الحقيقية التي تمتد إلى أواخر القرن التاسع عشر، مع التأكيد أنه لا يمكن اختزال هدف الصراع الأعلى بإقامة نظام مساواة المواطنة وتحقيق الأمور المطلبية الخدماتية، ولا يمكن حصر طبيعة الصراع بموضوعة نظام الأبارتهايد (الفصل العنصري)، فـ “الأبارتهايد” شكل من أشكال الممارسات الاحتلالية وأداة سياسية لإدارة المستعمرات جاءت لتستهدف مواصلة الاقتلاع والتهجير والإحلال والتهويد في سياق جوهر هذا الصراع وطبيعته الذي يتمثل على الوجود في هذا الأرض، لذا فإن هذا الصراع لا ينتهي بانتهاء أو بغياب الممارسة أو الأداة، كما هو الحال في جنوب أفريقيا.
حقيقة يقف الواحد منا مشدوهًا محتارا أمام تصريحات وبيانات بعض أبناء جلدتنا، هذه التصريحات والبيانات التي تقفز عمدًا عن جوهر هذا الصراع وطبيعته وعدم موضعته في سياقه الصحيح، لتبدأ حديثها عن أحداث يوم السابع من أكتوبر متناسية ما قبل ذلك، وتطالب بإطلاق سراح المختطفين في غزة ولا تذكر ولو بكملة ضرورة إطلاق سراح أكثر من 6 آلاف أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية من بينهم 700 مريض و200 امرأة وطفل ومعتقلون إداريون من دون توجيه اتهام!!
ويقف الواحد منا مشدوهًا متحيرًا أمام هذه البيانات والتصريحات التي تتجاهل عمدًا الانتهاكات الصارخة بحق المسجد الأقصى المبارك والاعتداءات على المصلين والنساء والأطفال في القدس والأقصى التي وصلت ذروتها عشية السابع من تشرين أول/أكتوبر، مع التذكير هنا أن هناك الكثير من النداءات والتحذيرات من جهات عدة، رسمية وشعبية، قد وجهت للحكومة الإسرائيلية خلال الأشهر الماضية بضرورة تجنب المساس بالمسجد الأقصى ووقف الانتهاكات بحقه. ومع التذكير أيضًا أن الجميع يعلم وبمن فيهم الحكومة الإسرائيلية أن القدس والأقصى هما العنوان الأبرز لأي عامل تثوير وتفجير، والمسجد الأقصى كان وما يزال بوصلة الشعب الفلسطيني ومفجر غضبه وانتفاضاته، لكن قلة قليلة هم الذين يتعظون ويتعلمون من الدروس لتفادي ومنع أي انفجار، وفي المقابل كثيرون هم الذين يصرون على تكرار الأخطاء نفسها.
نحن الفلسطينيون في الداخل نشعر بعجز قاتل نتيجة ما نعيشه اليوم من واقع صعب، لا يخفى على أحد، ونتعرض لسياسة الترهيب والترويع وجملة من الاعتداءات العنصرية من قبل متطرفين يهود، ويتعرض طلابنا في الجامعات والكليات المختلفة لملاحقات أمنية وكذلك الموظفون بالمؤسسات الحكومية والقطاعات الخاصة، على اعتبار أن الدولة في حالة الحرب وحالة طوارئ، ولا يوجد قانون واضح، ولم يعد هناك أي شيء مألوف، لكن لا يوجد أي مبرر وأي تفسير لمثل هذه البيانات والتصريحات المبتورة التي لا يفهم منها إلا الانحياز الصريح لرواية ومواقف على حساب رواية ومواقف أخرى بشكل اختياري وليس اضطراري، فإن لم تكن هناك مساحة كافية للتعبير بحرية فهنا الصمت يكون أفضل تعبيرًا وأدق تفصيلًا عن كلام البيانات والتصريحات، وفعلًا “الصبر مفتاح الفرج”.
في الختام لابد من التنويه إلى أن عنوان هذه المقالة فقط (الصراع لم يبدأ في 7 أكتوبر) مستوحى من تصريحات إعلامية لملكة الأردن رانيا العبد الله التي تؤكد فيها أن هذا الصراع (الحرب على غزة) لم يبدأ في 7 أكتوبر، رغم أنه يتم تصويره على أنه كذلك، كما تقول.