الإيمان وأثره على الفرد والمجتمع
الشيخ كمال خطيب
المؤمن قوي بإيمانه وهو يستمد قوته من الحق الذي يعتنقه ويعمل لأجله. فالمسلم لا يعمل من أجل شهوة عارضة ولا لنزوة طارئة ولا لمنفعة شخصية ولا لعصبية جاهلية ولا للبغي على أحد من البشر، ولكنه يعمل للحق الذي قامت عليه السماوات والأرض. وإن صدق هذا الإيمان وقوته ينعكس ويظهر من خلال سلوكيات وممارسات تكون نتاج هذا الإيمان الصادق والقوي، ومنها:
التزام الحق مع القريب والبعيد
فالمسلم صادق في كل حال، عادل في كل حين، فهو يعترف في الخطأ إذا زلت به قدمه، فلا يكابر ولا يبرر خطأه، يقول الحق ولو كان مرًا، يقوم لله شاهدًا بالقسط وشاهدًا ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، يعدل مع العدو عدله مع الصديق، لا يعرف التحيّز ولا المحاباة ولا المجاملة في الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} آية 135 سورة النساء. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} آية 58 سورة النساء.
وقد بلغ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أن أحد أبنائه اشترى خاتمًا بألف درهم، فبعث إليه قائلًا: فقد بلغني أنك اشتريت خاتمًا بألف درهم، فإذا بلغك كتابي هذا فبعه وأطعم ألف جائع بثمنه واشتر خاتمًا من حديد واكتب عليه “رحم الله امرَأً عرف قدر نفسه”.
الاستهانة بالقوة المادية
إن من نتائج ومظاهر صدق الإيمان وقوته عند المسلم، ثباته في وقت الشدة، فلا تتزلزل له قدم ولا يتزعزع له ركن. إنه لا يخشى الناس قلّوا أو كثروا، ولا يبالي بالأعداء وإن أرغوا وأزبدوا. إن أبواب الخوف كلها تنسدّ في وجه المسلم فلم يعد يخف إلا من ذنبه ومن سخط ربه، متمثلًا وصية الرجل الصالح لما قال: “لا تخف إلا ذنبك ولا تخش إلا ربك”.
الإخلاص في القول والعمل
إن من مظاهر قوة المسلم التي هي من نتاج قوة إيمانه، إخلاصه في القول والعمل والنية لوجه الله تبارك وتعالى، فتراه يعمل الخير وينهى عن الشرّ، حتى لو لم يكن له فيه نفع مادي ولا مصلحة شخصية.
إنه لا تهمه المحمدة ولا الشهوة ولا رضا الناس، بل يسعى لعمل السر تجنبًا للرياء، متمنيًا أن يكون ممن يحبهم الله ويحبونه. إن قوة إيمان المسلم الصادق تكمن في أنه يسعى لأن يكون مثل جذع الشجرة يمدها بالغذاء لا يراه أحد، ومثل الأساسات للبيت وهي التي تمسك البيت من أن يقع وتتهدم حيطانه. إنها تلك الطاقة الروحية التي تجعل المسلم يتجرد للحق حتى يكون أقوى من الجبال والأرض كما ورد في الأثر: “لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتتكفأ فأرساها بالجبال فاستقرت، {والجبال أرساها} فتعجبت الملائكة من شدة وقوة الجبال، فقالت: يا ربنا هل خلقت خلقًا أقوى من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالت الملائكة: فهل خلقت خلقًا أشد من الحديد؟ قال: نعم، النهر. قالت: فهل خلقت خلقًا أشد من النار؟ قال: نعم، الماء. قالت: فهل خلقت خلقًا أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح. قالت: فهل خلقت خلقًا أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدق بصدقة بيمينه فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه”.
إنه الإنسان المسلم إذا أخلص لربه سبحانه فإنه يصبح أشد قوة من الجبال الراسيات كالأوتاد، ومن الحديد به تقطع حجارة الجبال، ومن النار تذيب الحديد وتصهره، ومن الماء الذي يطفئ النار، ومن الريح التي تحمل الغيوم المليئة بالماء. إنه المسلم لا يعمل إلا من أجل الله ليرضى عنه {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ} يسعى لرضى الخالق وإن أغضب بذلك المخلوقين.
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الودّ فالكل هين فكل الذي فوق التراب تراب
التحرر من الخوف والاستخفاف بالطواغيت والجبابرة
إنه أكثر ما يذل أعناق الرجال ويُضعف نفوسهم هو الحرص على الحياة وإن كانت ذليلة. ولقد عاب الله تعالى على أقوام أنهم يحرصون على الحياة أي حياة {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ} آية 96 سورة البقرة. إن الحرص والخوف هما اللذان يضعفان النفوس ويحنيان الرؤوس ويذلّان الأعناق. ولقد تحدث القرآن الكريم عن سحرة فرعون الذين آمنوا بالله واستجابوا لدعوة موسى عليه السلام. لقد آمنوا بالله وبالآخرة واستهانوا بالدنيا ولم يجزعوا من الموت الذي هددهم به فرعون، بل قالوا له بكلمات وثبات هو أشد من ثبات الجبال: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} آية 72 سورة طه. لقد انقلبوا من أتباع وعبيد له إلى دعاة يبشرونه وينذرونه: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} آية 73 سورة طه.
فها هو الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك وقد دخل عليه الإمام طاووس فسلّم عليه باسمه وخلع الحذاء بجانب البساط الذي يجلس عليه هشام وجلس إلى جانبه. غضب هشام لما رأى من فعل الإمام طاووس، لكن طاووس بادر ليقول: إني خلعت الحذاء بجانب بساطك فإني أخلعها بين يدي رب العزة خمس مرات لما أقف بين يديه للصلاة، وإني أسميتك باسمك وليس بأمير المؤمنين لأني أعلم أن ليس كل المؤمنين راضين عنك، وأنا لا أكذب، وإني جلست بجانبك لأني سمعت أن عليًا كرم الله وجهه قال: “إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل يجلس وحوله قوم قيام”.
وها هو المرحوم الاستاذ عمر التلمساني خلال حكم الرئيس المصري أنور السادات، وقد دُعي لحضور استقباله في مدينة الإسماعيلية. وخلال كلمه أنور السادات التي فيها راح يتهم الإسلاميين بأنهم هم من يقف خلف الفتنة الطائفية التي وقعت في مصر مطلع الثمانينات من القرن الماضي بين المسلمين والأقباط.
فوقف التلمساني جريئًا شجاعًا يرد على السادات تهمه وأكاذيبه وقاطعه قائلًا: “الشيء الطبيعي أنه إذا ظلم أحدنا غيره وإذا ظلم بعضنا بعضا فإننا نتوجه إليك ونشكو الذي ظلمنا إليك لتنصفنا وتأخذ لنا حقنا، أما وأنك أنت الذي تظلمنا فلمن نشكوك، إننا نشكوك إلى الله رب العالمين”. أصيب السادات برعشة وذعر من أثر ووقع هذا الكلام الجريء وطلب منه أن يسحب هذه الشكوى قائلًا: اسحبها يا عمر، فقال له عمر التلمساني:” إنني لم أشكوك إلى ظالم وإنما شكوتك إلى رب عادل”.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.