عندما يتحرك الضمير الإنساني..
ساهر غزاوي
“من المهم أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدث من فراغ، وأن هذه الهجمات لا تبرر لإسرائيل القتل الجماعي الذي تشهده غزة.. الشعب الفلسطيني خضع مدى 56 عامًا للاحتلال الخانق”.. هذه أقوال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش خلال جلسة عقدها مجلس الأمن الدولي والتي أثارت حفيظة الإسرائيليين وغضبهم العارم، وهذه هي الأقوال التي دفعت بمسؤولين إسرائيليين رسميين إلى إطلاق تصريحات جنونية تحمل بين طياتها التهديد والوعيد لغوتيرش ولكل من لم يؤيد الحرب المتواصلة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على سكان قطاع غزة المدنيين منذ نحو ثلاثة أسابيع.
من هذه التصريحات الإسرائيلية الرسمية وردّات الفعل الجنونية على سبيل المثال لا للحصر، هناك من دعا إلى الاستقالة الفورية للأمين العام للأمم المتحدة، وهناك من وصف هذه الأيام بـ “أيام مظلمة بالنسبة للعالم”، وهناك من هدد بعدم الالتقاء بالأمين العام، وهناك من استخدم منطق الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش (الابن) في حربه على العالم الإسلامي والعربي مطلع الألفية الميلادية الثالثة، بدواعي “محاربة الإرهاب” إذ قال: “من ليس معنا، فهو ضدنا”، هذا المنطق المبني على نزعة استعلائية ودوافع استعمارية هو نفسه المنطق الذي دفع بمسؤول إسرائيلي رسمي أن يقول “من ليس على الجانب الصحيح من التاريخ سيحكم عليه. ومن يبرر الإرهاب لا يستحق أن يتحدث باسم العالم”. وهي النزعة الاستعلائية نفسها التي دفعت بالسفير الإسرائيلي لدى الامم المتحدة لأن يعلن أن بلاده سترفض منح تأشيرات لمسؤولي المنظمة الدولية.
ليست تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش هي الوحيدة التي ترتكز في النظر على أن إسرائيل هي من يتحمل مسؤولية الكبيرة وبالدرجة الأولى عن ما يجري اليوم من في هذه الحرب ومآلاتها وتبعاتها وتوقعاتها، بل إن هذه التصريحات أضحت تمثل حالة عامة وموقف إنساني ويقظة للضمير الحيّ في هذا العالم الذي يمتاز بنفاقه ومعاييره المزدوجة الصارخة. فهذه منظمة “هيومن رايتس ووتش” الدولية تتساءل: “أين الإدانة الواضحة للتشديد القاسي من الحصار المفروض على غزة منذ 16 عامًا، والّذي يرقى إلى مستوى العقاب الجماعي، وهو جريمة حرب؟ وأين هي الدعوات الواضحة والصريحة الموجّهة إلى إسرائيل لاحترام المعايير الدوليّة في هجومها على غزّة، ناهيك عن المساءلة؟”.
وها هو الصحفي والكاتب البريطاني ديفيد هيرست، يتحدث في مقاله عن الأوضاع في القدس والضفة الغربية المحتلتين ويُحمل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي مسؤولية عن ما يجري في غزة، بعد منح إسرائيل الضوء الأخضر لارتكاب مذابح بحق الفلسطينيين، بحسبه ويقول: “أطلقت حماس على هجومها اسم طوفان الأقصى لسبب ما، فالأقصى يهاجم طوال الوقت، الأقصى ليس ثالث أقدس مواقع الإسلام فحسب، بل إنه رمز وطني لفلسطين أيضًا. هذه الأرض المقدسة يجري الاستيلاء عليها تدريجيًا، والغرب يسمح لهم بفعل ذلك مجددًا”. وفي موضع أخر من المقال يقول هيرست: “هذا ما دفع حماس إلى أن تقول طفح الكيل، لكن هناك العديد من الأسباب الأخرى أيضًا، إذا تخيلت أنك عشت 16 عامًا في سجن مفتوح مع تقنين الكهرباء والطعام، و60 بالمئة بطالة وهجمات متكررة للمستوطنين على القرى الفلسطينية تحت حماية الجيش، فيما وصفه الإسرائيليون أنفسهم بالمذابح”.
وهي تصريحات ملكة الأردن رانيا العبد الله في مقابلة إعلامية لها على شبكة “سي إن إن” التي ترتكز أيضًا على أن هذا الصراع (بحسب وصفها) لم يبدأ في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وتؤكد أن الفلسطينيين على الجانب الآخر من الجدار العازل والأسلاك الشائكة لم يغادروا الحرب وقصتهم عمرها 75 عامًا، قصة موت وتهجير للشعب الفلسطيني، كما تقول.
من المهم التأكيد أن ما ذُكر آنفا من تصريحات ترتكز في النظر على أن إسرائيل هي من يتحمل مسؤولية الكبيرة وبالدرجة الأولى عن ما يجري اليوم من في هذه الحرب ومآلاتها وتبعاتها وتوقعاتها، ليست مجرد تصريحات إعلامية ولا مجرد ضريبة كلامية، بل إنها تصريحات تؤخذ على محمل الجد لدى الطرف الإسرائيلي ويعمل لها ألف حساب وحساب وتستنفر لها الطاقات وتسخر لها الإمكانيات، لأنها محطة فارقة بمعركة الوعي بين إسرائيل والفلسطينيين.
هذه التصريحات وخاصة عندما تصدر من رؤساء وممثلو دول وهيئات حقوقية، من شأنها أن تعزز التعاطف الكبير مع الفلسطينيين أصحاب القضية العادلة ومن شأنها أن تدعم المظاهرات الشعبية المؤيدة للفلسطينيين خاصة في المدن والعواصم الغربية التي في نهاية المطاف ستصب في صالح القضية الفلسطينية وتقوي من شوكة الفلسطينيين في معركة الوعي والرواية المحتدمة بين إسرائيل والفلسطينيين، في الوقت الذي تصارع فيه إسرائيل لإثبات روايتها، وهذا ما أثار حفيظة الإسرائيليين وغضبهم العارم من تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة وغيرها من التصريحات. وفي النهاية دائمًا لا يصح إلا الصحيح وقضية فلسطين عنوان حق وعدالة.