معركة الوعي (176) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (14)
حامد اغبارية
هل ينسحب صلح الحديبية على الحالة الإسرائيلية؟
هذا ما سأجتهد في الإجابة عليه من خلال مناقشة ما أورده رايتر في كتابه.
في الصفحة (67) يُفرد رايتر فصلا حول صلح الحديبية، يحاول من خلاله البحث عن إبرة في كومة قش لتبرير معاهدات الصلح التي عقدتها بعض الأنظمة العربية مع تل أبيب. وعندما تقرأ ما في هذا الفصل من معلومات ستكتشف حجم الدجل، وهو يوهم القارئ بأنه يقدم ما أطلق عليه “الرواية الكاملة” لصلح الحديبية.
يقول رايتر في استعراضه “للرواية الكاملة” لصلح الحديبية إن غزوة الخندق أثّرت على هيبة النبي (حاشاه صلى الله عليه وسلم) رغم أن الهجوم الذي شنّته قريش باء بالفشل!
أولا إن النبي صلى الله عليه وسلّم أعظم من أن تتأثر هيبتُه، وهو المعصوم من ربّه سبحانه وتعالى، ولا يتحرك إلا بوحي من الله، وأنه إنما يحمل رسالة الرحمة للعالمين. هذه المعاني لا يمكن لأحد مثل رايتر أن يستوعبها ويفهمها. ثم كيف تتأثر هيبة النبي عليه الصلاة والسلام وقد نصره الله تعالى في الخندق دون قتال؟ وكيف تتأثر هيبته وهو- بوحي من الله- يبشّر مَن حوله من الصحابة الكرام بفتح اليمن وفارس والروم؟ كيف وقد خرج من الخندق ويدُه هي العليا ويدُ قريش وحلفائها هي السفلى، مهزومة تجرجر أذيال الهزيمة في ليلة رعب لم يسبق لهم أن عرفوا مثلها؟
ثم يقول: “كان النبي يعرف أن معنويات المكيين عالية، وأن قدرة معسكره القتالية ضعيفة لا تسعفه في حسم المعركة، كما أدرك أنه لن يستطيع التوسّل!! للمكيين ليوافقوا على إبرام معاهدة صلح، وهكذا كان أداء العمرة هو الإمكانيّة الوحيدة المتاحة أمامه لخلق وضع لا يظهر فيه كطرف ضعيف عند عقد الهدنة مع قريش”.
كلام مليء بالتخبط وتزوير الحقائق لإظهار النبي بمظهر الضعيف الذي يمكن أن يتوسل للصلح، أو كأنه يسعى إليه من منطلق ضعف. وهذا مناقض لحقائق التاريخ. فالنبي عليه الصلاة والسلام يحمل رسالة السماء إلى الناس أجمعين، وقد كان حريصًا على أن يُسلم قومه وأهلُه من قريش قبل الآخرين، ولذلك تراه يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أورده البخاري: {والذي نفسي بيده، لا يسألونني خُطة يُعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها}. فقد كان النبي قد علم من الرؤيا التي أراها الله له في منامه أنه سيفتح مكة ويطوف حول البيت، وما خرج للعمرة إلا لعلمه أن الله سيفتح عليه، فرؤيا الأنبياء حق، وهو ما لا يدرك رايتر وأمثاله كَعْب حقيقته.
هذه “التحليلات السياسية” المجرّدة (البعيدة عن الواقع) التي يسوقها رايتر ينقلها عن المستشرق فريد دينر، وأمثاله من المستشرقين الذين تعاملوا مع رسالة النبوّة على أنها مجرد عمل سياسي بغطاء ديني!! ولذلك تجده يستصعب استيعاب كيف تمكن النبي عليه الصلاة والسلام من هزيمة كل تلك القبائل رغم قلة عدد أتباعه. بمعنًى آخر هي النظرة المادية إلى الأمور، والتي ما نزال نجدها إلى الآن في تعامل أمثال هؤلاء مع قدر الله تعالى.
لذلك تجده، كما تجد رايتر ، يستبعد البُعد الديني من القضيّة، استبعادا كليًّا، دون الالتفات إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام ما خرج إلا وفي يقينه أن الله سيفتح عليه مكة وأنه سيدخلها، دون أن يحدد موعد ذلك الدخول. وهكذا تجدُ رايتر يطلق في مكان آخر (ص68) على صلح الحديبية “صلح الدنيّة”، دون أن يقول لنا ما هو المصدر الذي أخذ عنه هذه التسمية. فهو يقول: “وقد أُطلق على هذا الاتفاق اسم “صلح الدنيّة”، وهو مصطلح يحمل تفسيرين: أن شروط الاتفاقية تعتبر مذلّة لمعسكر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأنها أبرمت على خلفيّة الدونيّة العسكرية لمعسكر المسلمين مقابل معسكر الخصم. هذه التسمية لم أعثر لها على مصدر عربي أو أجنبي إلا عند رايتر هذا، الذي اخترعه من عنده، فيما يبدو، ويقدم لها “تحليلا” فاشلا، مستندا إلى مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ فشروط الاتفاقية لم تكُن مذلة أبدا، بل حملت في طياتها النصر القادم، رغم أن بعض الصحابة أعرب عن عدم رضاه منها لأنه تعامل معها تعاملا بشريا ظاهريا، لكنهم مع ذلك لم يشكُّوا أبدًا بصدق نبيهم عليه الصلاة والسلام، ولا بصدق موعود الله بأنهم سيدخلون مكة فاتحين محلقين رؤوسهم ومقصّرين.
على أية حال، فإن رايتر يسوق قضية صلح الحديبية ليُسقطها كنموذج قابل للتطبيق على الحالة الإسرائيلية في العلاقة مع الدول العربية والإسلامية.
ولعله من المفيد أن نؤكد مرة أخرى أن صلح الحديبية لا يصلح نموذجا لتبرير الصلح مع الاحتلال الصهيوني، رغم وجود فتاوى تبيح ذلك لأسباب مختلفة كلّها باطلة، سواء كان هذا الصلح مع م.ت.ف. بقيادة عرفات عام 93 أو مع مصر أيام السادات عام 79 أو مع الأردن عام 94. فهناك فرق شاسع بين الحديبية وبين الحالة الصهيونية. فأطراف الاتفاق في الحالتين تختلف، ولا مجال للمقارنة بينهما. فأهل قريش من الكفار كانت لهم في مكة بيوت وأملاك، فهم من أهلها الأصليين، ولم يأتوا من خارج مكة ليحتلوها ثم ليزعموا أن الأرض لهم بوعد من السماء، وأن الرب قد اختار قريش دون شعوب الأرض ليصبحوا “قبيلة الله المختارة”. وعندما أخرج كفارُ قريش النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين لم يُخرجوهم بدعوى أنه ليس لهم حق في أرض مكة، وأنهم ليسوا أصحاب المكان، وإنما أخرجوهم لأسباب تتعلق بالجانب العقدي. وحتى عندما اعتدى كفار قريش على بيوت المسلمين بعد خروجهم من مكة لم يفعلوا ذلك لاعتقادهم أن هؤلاء المسلمين ليس لهم حق عام في مكة، بل هو اعتداء على أملاك شخصية رغبة في الانتقام وفي محاولة لردعهم عن اتّباع النبيّ عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أقرت قريش بأنه من أشرف بيوتها، رغم عدائها له.
أضف إلى ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد صلح الحديبية إنما كان يتصرف بالوحي ويسير بالوحي، وفي نصّ الصلح لم يكن أيُّ تنازل من طرفه عليه الصلاة والسلام عن حقه والصحابة في وطنهم مكة أو عن جزء منها، ولم يكن فيه تقسيم لأرض مكة بين المسلمين وبين الكفار، وإنما كان الهدف التوقف عن القتال لعشر سنوات يستفيد منها المسلمون في التفرغ لجبهات أخرى، ليس بالضرورة أن تكون جبهات عسكرية، رغم أن الواقع فرض غزوة خيبر في مطلع السنة السابعة للهجرة، أي بعد وقت قصير من الحديبية، بسبب المؤامرة التي حاكها يهود خيبر مع قريش ضد المسلمين. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم على يقين بوعد الله بفتح مكة، كما أسلفنا. لذلك لم يجد حرجا في عقد ذلك الصلح مع أهل قريش وهو يطمع أن يدخلوا في دين الله. كذلك اعترفت قريش تلقائيا في تلك الاتفاقية بأن محمدا صلى الله عليه وسلم له كامل الحق في دخول مكة، وأنها وطنه الذي ليس لأحد أن يحرمه منه. فهل عقدت المؤسسة الإسرائيلية “أوسلو” مع عرفات لتعترفَ له بحقه في الأرض والوطن أو بحق العودة مثلا؟ كيف نرى آثار أوسلو الكارثية اليوم مقارنة مع ما حدث بعد الحديبية في جزيرة العرب؟! إن ما حدث هو العكس تماما. فقد اعترف العرب والمسلمون بأن للحركة الصهيونية شرعية في استيطان أرضٍ يعتبرونها إسلامية. فكيف يمكن المقارنة بين الحالتين؟!
ثم إنك ستجد أن القبائل العربية التي كانت مترددة في التحالف مع المسلمين خشية من قوة قريش بدعم من يهود الجزيرة، أصبحت لديهم إمكانية حقيقية للتحالف مع المسلمين دون خشية من أحد. بينما في الحالة الفلسطينية – الإسرائيلية حدث العكس تماما. فقد أتاحت أوسلو (وقبلها كامب ديفيد مع مصر ووادي عربة مع الأردن) لعقد اتفاقيات تطبيع مذلة ومهينة مع تل أبيب.
كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُلغ الجهاد والقتال من قاموس المسلمين، كما فعل السادات عندما قال وهو ينفخ صدره وينفث دخان التبغ من غليونه: “نو مور وور” (أي لا حرب بعد اليوم)، أو عندما خرجت جماعة “أوسلو” عن بكرة أبيها وهي تردد نشيد “إنما الحياة مفاوضات حتى قيام الساعة”!!
وعليك أيها الفطن أن تتنبه إلى مسألة غاية في الأهمية: إنّ الذي وقّع الحديبية هو النبي صلى الله عليه وسلم، بوحي إلهي، وهو أعلى سلطة في الدولة، ويمثل المسلمين جميعا، الموافق منهم والمعارض، فهل كان السادات أو الملك حسين أو عرفات أو محمود عباس أو مَن جاءوا بعدهم من خِرفان قطيع التطبيع يمثّلون دولة الإسلام وإرادة الأمة عندما وقَّعوا اتفاقيات العار؟ إن الواحد منهم بالكاد يمثل الحاشية التي تلتف حوله وتصفّق له نفاقا ونفخا وتزيينا لخيانة إرادة الشعب والأمة. (يتبع).