معركة الوعي (174) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (12)
حامد اغبارية
يلجأ رايتر إلى تحريف المعاني من خلال استشهاده بكلام منسوب إلى الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر بين 1958-1963، بخصوص الجهاد، فيقتبس ذلك الكلام من المدلس الكذاب المستشرق المرتد المدعو باتريك سوخديو، والذي أوضحنا حقيقته وحقيقة حقده على الإسلام في المقال الخامس من هذه السلسلة، زاعما أن الشيخ شلتوت قد قال إن الجهاد كحرب مفروضة لم يكن مذكورا في النصوص التراثية التقليدية، وإن آيات القرآن في هذا الشأن لا تتعلق إلا بالسياق المحدد الذي تطرقت إليه، وإن شلتوت يرى أن الفقهاء في العصور الوسطى أخطأوا في تفسيرهم لمفهوم الجهاد، في حين كان يميل (أي شلتوت) إلى تفسير الجهاد على أنه جهد شخصي فقط (ص 44).
يتقن رايتر اللغة العربية بما يكفي ليطلع على المعلومة من مصادرها. وإذا راجعت قائمة مصادره ستجده يأخذ من مصادر عربية، فكيف لم يرجع إلى ما كتبه الشيخ شلتوت عن هذا الموضوع في كتابه “القرآن والقتال”، وأخذ عن الكذاب سوخديو؟
يتحدث الدكتور شلتوت رحمه الله في كتابه “القرآن والقتال” عن أناس أطلق عليهم “مقلّدة الفقهاء” كانوا يسيئون فهم القرآن وآياته ويضعونها في غير موضعها على العموم، وليس فقط ما يتعلّق بالجهاد، وكيف أن هؤلاء كانوا يفسّرون آيات القرآن على هواهم أو يزعمون أنها لا تتفق مع مذهب أهل السُنّة أو مع أحد المذاهب الأربعة، ثم يقول إن هؤلاء يردّون الكلام إلى رأيهم الشخصي وليس إلى القرآن والسنة كما يدعوهم الله تعالى في قوله {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله ورسوله} (النساء: 59)؛ أي إلى القرآن والسنّة. ويذكر الشيخ شلتوت طائفة من المفسرين والعلماء الذين تحدثوا في هذه القضية ومنهم الرازي والغزالي والعز بن عبد السلام وغيرهم. فهل هذه القامات في التفسير تشملها أيضا أباطيل سوخديو الذي ينقل رايتر عنه ما ينسب إلى الشيخ شلتوت، من أن الفقهاء (بأل التعريف!!) في العصور الوسطى أخطأوا في تفسيرهم لمفهوم الجهاد، وهم نفسهم الذين يتحدثون عن مقلدين أساؤوا إلى التفسير؟ يا سبحان الله!
في الصفحة (10) وما يليها من كتابه يتحدث الدكتور شلتوت عن أهمية فهم “القتال في القرآن”، ويقول: (إن للقتال في هذه الأوقات (أي في زماننا) شأنا واقعيا ملأ الدنيا وشغل الناس… فما أحوج الناس في وقتهم هذا، وفي سائر الأوقات، إلى معرفة أحكام القرآن في القتال وفي أسبابه التي تَحملُ عليه، وغايته التي بها تضع الحربُ أوزارَها وتلقي عن كاهل الناس أثقالها. ما أحوجهم إلى معرفة ذلك ليعلموا مقدار حكمة القرآن في القتال، وحرص الإسلام على السلام وكراهته لإراقة الدماء وإزهاق الأرواح في سبيل الأثرة بحطام ليس لها بقاء… وليعلم هؤلاء الذين يروّعون العالم من وقت لآخر بحروبهم الفاتكة مقدار انحرافهم العملي عن دينهم الذي يعتقدون أنه دين السلم والسلام دون غيره من الأديان. وهل يقبل في نظر العقل أن الدين الذي يدعو إلى السلم ويطلب من الناس تسخير ما وهب الله لهم فيما ينفع لا فيما يضرّ، وفيما يعمّر لا فيما يخرّب، يرضى من معتنقيه أن يروّعوا العالم هذا الترويع الذي يخلع القلوب ويذيب الأفئدة ويحوّل المدن العامرة إلى خراب، والمدنيات الراقية إلى فناء، والحضارات المزدهرة إلى دمار، بينما يقولون بألسنتهم إن دينهم دين السلام وإن غيره دين الحرب.. قام بالسيف وأُسس على الإكراه).
فمن هم المقصودون بهذا الكلام؟
ليس كما يوهم ذلك المسخ الذي ينقل عنه رايتر كلامه الباطل. إن الشيخ شلتوت يقصد الغرب الصليبي الذي لم تعرف البشرية (بعد المغول) فظائع ارتكبتها أمة من الأمم كما فعل هؤلاء، الذين يزعمون أن دينهم دين سلام ومحبة!!
يشرح الدكتور شلتوت بالتفصيل (حتى الصفحة 21) طبيعة الدعوة إلى الإسلام وتحبيب خلق الله به عن طريق الدعوة بالتي هي أحسن، موردا الآيات التي تبين ذلك، وأنه لا يصح إكراه أحد على الإسلام؛ ثم بعد ذلك يُفرد فصلا عن آيات القتال في القرآن، وهو ما استند إليه سوخديو الذي يقتبس رايتر عنه ما نسب إلى الشيخ شلتوت.
يتطرق رحمه الله إلى نوعين من القتال في القرآن، وهو قتال المسلمين للمسلمين، وهذا لا يعنينا في هذا المقام، وقتال المسلمين لغير المسلمين، ثم يفصل في هذه المسألة من بدء الدعوة في مكة وحض النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين على الصبر على البلاء حتى أذن الله تعالى بالقتال في المرحلة المدنية، ويقول: “أذنت آية القتال الأولى (أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا…) للمسلمين بالقتال لأن هذا الإذن موافق لما تقتضيه سُنّة التدافع بين الناس حفظا للتوازن، ودرءًا للطغيان، وتمكينا لأرباب العقائد والعبادات من أداء عباداتهم والبقاء على عقيدة التوحيد والتنزيه، ثم أرشدت الآية إلى أن الله إنما ينصُر، بمقتضى سنته، من ينصره، فلا يتخذ الحرب أداة للتخريب والإفساد وإذلال الضعفاء وإرضاء الشهوات والمطامع (كما تفعل المؤسسة الإسرائيلية منذ أُنشئت… وكما يفعل الغرب الصليبي في حروبه ضد المسلمين). ثم يسلسل الشيخ شلتوت سائر آيات القتال ليؤكد حقيقة واحدة، وهي أن الأمر بقتال غير المسلمين لم يكن بسبب كُفرهم وليس دافعه إكراه الناس على الدخول في الإسلام، كما تحاول جهات كثيرة إظهار الأمر تشويها للإسلام ودعوته وحقيقة الجهاد الذي يأمر به.. وإنما بسبب سعيهم للفتنة والفساد والإفساد والعدوان واستغلال الضعفاء.. ثم يعرض رحمه الله أربعة أهداف لآيات القتال في القرآن:
أولا: أنه لا توجد آية واحدة في القرآن تدل أو تشير إلى أن القتال في الإسلام لحمل الناس على اعتناقه.
ثانيا: أن سبب القتال ينحصر في رد العدوان وحماية الدعوة وحرية الدين.
ثالثا: أن القرآن حينما شرع القتال نأى به عن جوانب الطمع والاستئثار وإذلال الضعفاء، وابتغاه طريقا إلى السلام والاطمئنان وتركيز الحياة على موازين العدل والمساواة.
رابعا: أن الجزية لم تكن عوضا ماليا أمام دمٍ أو عقيدة، وإنما هي علامة على الخضوع وكفّ الأذى ومشاركة في حمل أعباء الدولة.
ثم يقول (في الصفحة 41) إن من يتتبع آيات القتال في كتاب الله يجدها تضع للمسلمين مبادئ عامة يتكون منها قانون موضوعي للقتال له مكان القمة بين نُظم العصر الحديث والمدنية الحاضرة، وهو قانون يقوم عل ثلاثة عناصر:
تقوية الروح المعنوية للأمة، وإعداد القوة الماديّة، والتنظيم العملي للحرب. فأين رايتر ومؤسسته الإسرائيلية التي تتحدث عن السلام، وهي أبعد ما تكون عنه وعن حقيقته، من هذا الكلام؟ وكيف يقرأ رايتر حال الأمة اليوم؟ هل ينسحب عليها أي مبدأ من مبادئ قانون القتال الذي يتحدث عنه الشيخ شلتوت؟
وبعد ذلك يستعرض الشيخ رحمه الله أربع عشرة مسألة في التنظيم العملي للقتال، وهو ما تجنب رايتر وسوخديو الحديث عنه.
وهذه المسائل باختصار: أسباب إعفاء الأفراد من القتال (ليس على الضعفاء….)، وإعلان الحرب كما أوجبه القرآن والحذر من الغفلة وانتهاز العدو (وإما تخافن من قوم خيانة…)، وتلبية الدعوة إلى الجهاد وعدم التخلف أو التباطؤ والتثاقل (…. مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض)، وتنظيم التعبئة للقتال على حسب الحاجة (وما كان المؤمنون لينفروا كافة…)، وتنظيم الجيش وتوزيع وحداته في مواضع الدفاع (وإذ غدوت من أهلك تبوّيء المؤمنين مقاعد للقتال…)، وفي السمع والطاعة للقيادة العامة والثبات على المواقف (…إذا لقيتم فئة فاثبتوا..)، وفي حكم الفرار من الصف أثناء القتال (ومن يولهم يومئذ دبره…)، وفي ترتيب الهجوم إذا تعدد الأعداء؛ أي ما يعرف بتعدد الجبهات (…قاتلوا الذين يلونكم من الكفار…)، وفي الحفاظ على أسرار الجيش (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله ورسوله…..)، وفي الهدنة والصلح إذا مال الأعداء إلى السلم بصدق ووفاء (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها…)، وفي الأسر ومعاملة الأسرى (ما كان لنبي أن يكون له أسرى…)، و (..فإما منًّا بعدُ وإما فداءً)، وفي الحفاظ على العهود وعدم الخيانة بها (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيْمان بعد توكيدها..)، وفي نبذ المعاهدات إذا تثبت فسادها وغلب هذا الفساد على المصلحة.
وإنك لو سحبت هذه المسائل على العلاقة بالمؤسسة الإسرائيلية وممارساتها لوجدت أن هذه المسائل تخيّب رجاء رايتر ومساعيه في كتابه هذا.
ولستُ أستغرب أن رايتر تجنّب كذلك التطرق إلى ما قاله الشيخ شلتوت في الفصل الأخير عن معاهدة اليهود في المدينة، إذ يقول: “…. خصوصا أن اليهود الذين عاهدهم النبيّ (يعني في المدينة) لم يكونوا من الإخلاص بحيث يأمن بقاءهم على العهد، وأنه لا بد أن يفسحوا مجال المدينة للعدو (يعني مشركي قريش) وتتفق بذلك كلمتهم (يعني اليهود وقريش) على مطاردة المؤمنين في المدينة كما طوردوا من قبل في مكة” (ص 61).
ثم إنني استعرضت كتاب الدكتور شلتوت من أوله إلى آخره فلم أجد ذكرا لمزاعم سوخديو ورايتر من أن الشيخ شلتوت يميل إلى تفسير الجهاد على أنه جهد شخصي، لا تصريحا ولا تلميحا.
(يتبع)..