قناة 14… بوق اليمين والشعبوية في إسرائيل
تبيّن المؤشرات كلها أن قوى اليمين المحافظ والديني التي تشكل الحكومة الإسرائيلية الحالية مصممة على إعادة بناء موازين القوى الداخلية وضمان تكريس سيطرتها على مقاليد الأمور، ليس فقط بواسطة خطة التعديلات القضائية التي تعكف على تنفيذها حكومة بنيامين نتنياهو، بل أيضاً عبر هندسة وعي الجمهور الإسرائيلي، من خلال حملات دعائية تديرها ماكينات إعلامية تتبنى خطاباً شعبوياً لا يحتكم إلى أي قدر من متطلبات الموضوعية والأخلاقيات المهنية.
ولا خلاف على أن قناة 14، وهي أهم أبواق اليمين الديني في إسرائيل والأكثر شراسة في دفاعها عن سياسات حكومة نتنياهو، تلعب الدور الأكبر في محاولة تحقيق هذا الهدف.
أسس هذه القناة رجل الأعمال الروسي اليهودي ميخائيل ميريلاشفيلي، عام 2020، علماً أنه هاجر إلى الأراضي المحتلة عام 2009. ووفقاً لصحيفة يسرائيل هيوم التي أجرت مقابلة مع ميريلاشفيلي الأسبوع الماضي، فإن علاقة وثيقة تربطه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فضلاً عن أن والده كان صديقاً مقرباً لقائد مليشيا فاغنر يفغيني بريغوجين الذي قتل في أغسطس/ آب الماضي، بحادث تحطّم طائرة ركّاب خاصّة على متنها 10 أشخاص في منطقة تفير شمال غربي موسكو خلال رحلة داخلية.
ووفقاً لـ”يسرائيل هيوم”، فإن معارضي التعديلات القضائية يتهمون ميريلاشفيلي بأنه يقف وراء الخطاب الشعبوي المتحمس لهذه الخطة، إذ نقلت عن قادة حركات الاحتجاج ضد هذه التعديلات قولهم إن ميريلاشفيلي يريد “أن يسود في إسرائيل نظام ديكتاتوري على غرار النظام القائم حالياَ في روسيا”.
وفي حين أجرى نتنياهو مقابلات متكررة مع شبكات إعلامية أجنبية في الأشهر الأخيرة، إلا أنه قاطع معظم القنوات الإسرائيلية. لكنه أجرى سبع مقابلات مع القناة 14 منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وفقا لدراسة نشرتها المجلة الإعلامية الإسرائيلية “سيفنث آي”.
وحرصت قناة 14 على ضبط مضامين برامجها اليومية والأسبوعية، لتحقيق هدف كبير يتمثل في المساعدة على إمضاء الانقلاب الذي تقوده الحكومة الحالية تحت تأثير الأحزاب الدينية المشاركة فيها، والذي تعد خطة التعديلات القضائية واحدة من أدواته.
تسعى الخطة إلى إضعاف المحكمة العليا في البلاد ونقل المزيد من الصلاحيات إلى البرلمان، ويقول المؤيدون إن قضاة إسرائيل غير المنتخبين يتمتعون بسلطة كبيرة، لكن المعارضين يقولون إن القضاة يلعبون دوراً إشرافيا مهماً، وإن الخطة ستدفع إسرائيل نحو الحكم الاستبدادي.
ولا يتردد مقدمو البرامج الحوارية ومراسلو القناة في فبركة المعلومات والزج بمعلومات كاذبة أو مجتزأة، من أجل إضفاء صدقية على توجهات الحكومة وسياساتها وتشويه معارضيها، وتحديداً في تغطياتها المتعلقة بخطة التعديلات القضائية. على سبيل المثال، بث مراسل القناة موطي كستل تقريراً ادعى فيه أنه حصل على معلومات حصرية تفيد بأن قادة حركة الاحتجاج على التعديلات القضائية يقدمون معلومات كاذبة حول عدد المشاركين في التظاهرات التي ينظمونها.
وزعم كستل أنه حصل على محادثات جرت في إحدى مجموعات “واتساب” تدلل على أن قادة حركات الاحتجاج توقعوا أن يصل العدد الأقصى من المشاركين في إحدى التظاهرات التي نظمت في تل أبيب، قبل أشهر، إلى 35 ألف، ثم قالوا إن أكثر من مائة ألف شاركوا. لكن موقع واللا أفاد لاحقاً بأن الرقم 35 ألف الذي ورد في المحادثة لم يأت في إطار التوقعات بشأن عدد الأشخاص الذين سيشاركون في التظاهرة، بل في سياق مختلف تماماً.
وعلى المنوال نفسه، يعكف كبار المذيعين في القناة، مثل بوعز غولان وشمعون ريكلين وينون ماغال وأرئيل سيغل، في استغلال برامجهم في مهاجمة مَن يقودون حركات الاحتجاج ضد التعديلات القضائية. إذ يطالبون جمهورهم بمقاطعة الشركات التي أعلنت دعمها لحركات الاحتجاج على التعديلات القضائية.
ويعفي مقدمو البرامج الحوارية في القناة أنفسهم من واجب عرض وجهات النظر الأخرى، فيتجنبون استضافة أي شخص لا يتبنى مواقف اليمين. أرئيل سيغل الذي يقدم برنامج “مونولوغ” يقف لمدة ربع ساعة في الحلقة، ويرتجل خطاباً أيديولوجياً يوزع فيه التهم على كل الذين يعارضون توجهات الحكومة، سواء حركات الاحتجاج على التعديلات القضائية، أو المعارضة، أو النخب الثقافية، أو وسائل الإعلام الأخرى.
لكن أهداف الخطاب الشعبوي الذي تتبناه قناة 14 لا تقف عند محاولة الترويج لخطة التعديلات القضائية وسياسات الحكومة بشكل عام، بل ترمي أيضاً إلى إحداث انقلاب على صعيد موقف المجتمع من الدين اليهودي وقيمه. فعلى سبيل المثال، حوّل مقدم البرنامج الحواري اليومي الذي تبثه القناة، بوعاز غولان، برنامجه إلى منصة للترويج لتعليم النشء اليهودي القيم الدينية في نسختها الأكثر تطرفاً. يكثر غولان من الدعوة إلى توسيع تعليم التناخ، الكتاب المقدس لليهود، في المدارس في إسرائيل، ويدعي أنه يلتقى اتصالات من أولياء أمور يحتجون على أنه لا يتم تدريس أبنائهم هذا الكتاب بالقدر المناسب. ويجاهر بأنه يجري في أوقات متقاربة اتصالات بوزير التعليم الليكودي، يوآف كيش، لمتابعة تدريس التناخ في المدارس الإسرائيلية، وتحديداً العلمانية. ويهدد إدارات المدارس بأن عدم تدريس التناخ يعدّ تجاوزاً صريحاً لتعليمات وزير التعليم.
وشبه الكاتب الذي ينتقد الإعلام روجل ألفر المقدم بوعاز غولان بطاغية رومانيا السابق نيكولاي تشاوشيسكو، بسبب عدم تردده في توظيف ظهوره الإعلامي في الترويج للأفكار المتطرفة والقيم غير الديمقراطية. وفي مقال لألفر نشرته صحيفة هآرتس، قال إن ما يقوم به غولان يسهم في تحقيق أهم أهداف اليمين الديني الحاكم المتمثل في تنفيذ “انقلاب” على صعيد تقبل وتشرب المجتمع قيم التطرف القومي والتشدد الديني. ورأى ألفر أن هذا التوجه هو الذي يفسر احتفاء نخب اليمين المتطرفة بغولان، بعدما كانت المعلقة اليمينية روت كاسبا قد وصفت برنامجه بأنه “فعل مقدس”.
وقالت ناقدة الإعلام، ليؤورا نير، إن قناة 14 في سعيها لترويج أفكار اليمين والتدليل على صدقيتها لا تتردد في “الإخلال بأقدم وأبسط قواعد العمل الإعلامي”. وفي مقال لها نشرته “هآرتس”، انتقدت بشدة “سلطة البث الثانية” التي يفترض أن تكون الجهة الرسمية التي تمارس الرقابة على القنوات التجارية، وضمنها قناة 14، لأنها لا تحرك ساكناً، مما جعل القناة تواصل هذا النهج من دون تردد. وأضافت: “قناة 14 تتصرف كطفل عدائي يخشى والداه وضع حدود له”. وشككت نير في أن يكون العاملون في القناة قد اطلعوا، ولو مرة واحدة، على وثيقة مبادئ أخلاقيات العمل الإعلامي.