معركة الوعي (173) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (11)
حامد اغبارية
حتى يصل رايتر إلى ما يريده من وراء كتابه، وهو إعطاء الشرعية لما يسميه اتفاقيات السلام مع المؤسسة الإسرائيلية، فإنه يعتبر أن مجرد التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة هو نوع من التوقيع على معاهدة سلام دائم مع جميع الدول التي اعتبرها رجال شريعة مسلمون منذ العصور الوسطى “دار حرب”. ولذلك فقد دفع هذا الواقع بعلماء الشريعة المعاصرين إلى إصدار فتاوى تقرّ بأنّ معاهدات السلام المبرمة بين أي دولة إسلامية ودولة أخرى غير إسلامية هي معاهدات نافذة ولا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، رغم أن التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة، يعتبر، وإن كان ظاهريا، إخلالا بالشريعة الإسلامية التي تبلورت في القرن السابع الميلادي.
فهو يريد أن يقول إن هذه الحالة تشمل، فيما تشمله، الدولة الإسرائيلية والمعاهدات التي وقعتها مع دول عربية وإسلامية، بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية.
وربما عليك أن تلاحظ حجم التناقض في كلام رايتر. فهو يستحضر من القرون الوسطى معاهدات واتفاقيات يقول إنها وقّعت بين الدولة الإسلامية وبين دول غير إسلامية، ثم يقول هنا إن “رجال شريعة مسلمين” اعتبروا دول اليوم “دار حرب” حسب مقاييس الشريعة في القرون الوسطى. بمعنى أنه لا يجوز عقد المعاهدات معها. فكيف يلتقي كل هذا التناقض في جملة واحدة؟ كيف تعقد الدولة الإسلامية تلك المعاهدات التي تحدث عنها رايتر في القرون الوسطى، رغم أن “علماء شريعة” يعتبرونها مخالفة للشريعة الإسلامية؟
ثمَّ لاحِظ استخدامه للفظ “علماء شريعة” وهو يتحدث عن العصور الوسطى، بينما يستخدم لفظ “علماء الشريعة المعاصرين” لدى حديثه عن إقرار معاهدات السلام اليوم. وكأنه يريد أن يقول بأن جميع علماء عصرنا أقروا بهذا، وهذا غير صحيح واقعيا، لأن هناك علماء لم يقرّوها. بل إن رايتر نفسه يقول هذا في مكان آخر في كتابه. لكنْ لدى البحث عن تبريرات فكل شيء جائز في شريعة المستشرقين!!
ثم يحق لك أن تسأل: هذه الدول العربية والإسلامية التي وقّعت على ميثاق الأمم المتحدة، هل هي دول إسلامية حقّا؟ هل مجرد أن هذه الدول سطرت في دساتيرها الوضعية المنسوخة من الغرب الصليبي أنها دول إسلامية، يجعلها إسلامية فعلا؟ إنها، عمليا، أبعد ما تكون عن الشريعة الإسلامية. فهي ليس أنها لم تطبقها وحسب، بل تحاربها حرب اجتثاث. فهل يصح إزاء هذا أن يقال إن دولا إسلامية وقعت على ميثاق الأمم المتحدة الذي يتناقض مع الشريعة الإسلامية التي تطبقها في بلادها؟ إن هذه الدول التي وقعت على ذلك الميثاق هي إسلامية بالاسم فقط، لكنها حقيقة ليست إسلامية، بل هي أنظمة وظيفيّة تخدم أهداف الاستعمار الذي أمضى قرونا طويلة تحديدًا من أجل تعطيل الشريعة الإسلامية. وبذلك تكون هذه الأنظمة أدوات هدم للشريعة.
أما الحديث عن أن التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة هو نوع من التوقيع على معاهدة سلام دائم مع جميع الدول، فهذا بينه وبين الواقع كما بين الثرى والثريا. ولديك عشرات الأمثلة التي تشهد أن هذا “السلام الدائم مع جميع الدول” قد خرقته الدول الاستعمارية الكبرى على مدار الساعة. فالعراق (الدولة الإسلامية) مثلا وقع على ميثاق الأمم المتحدة، فكيف أصبح العراق وكيف أضحى وكيف أمسى؟ وأفغانستان (الدولة الإسلامية) وقعت على الميثاق، فماذا فعلوا بها وإلى أين أوصلوها؟ وما تلك الحروب والأزمات التي يفجرونها كل يوم في بقعة جديدة من بلاد المسلمين، مرة في اليمن وأخرى في السودان وثالثة في ليبيا ورابعة في مخيمات اللجوء وخامسة وسادسة وسابعة…؟
يضربُ رايتر مثالا على ما يسميه “تطور الفكر الإسلامي الحديث” الذي يسعى إلى سدّ الفجوة بين الشريعة والواقع، لأول مرة في أوساط المفكرين المسلمين المعروفين باسم “المجددين” أو “الإصلاحيين”، وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده.
ورايتر بطبيعة الحال يعتبر، من خلال هذا الكلام التضليلي، أن التنازل عن مواقف الشريعة هو تطور فكري. فهو مثل غيره من المستشرقين، ومعهم جيش المتهافتين من كتَبة عرب بالهوية ومسلمين بالاسم، يروْن أنه لا يصبح الفكر الإسلامي متطورًا إلا إذا تنازل عن الشريعة. وكلما تنازل أكثر كان أكثر “تطورا” وأكثر “تنوّرا”. فالتطور عندهم هو ما ينسجم مع المفاهيم الغربية بمعناها الاستعماري الاستعلائي، دون أن يخلوَ من نغمة صليبية لا تخفى على أحد. ومعنى هذا أن “تطور الفكر الإسلامي” أو “تطور الفقه الإسلامي” هو تطور ذو اتجاه واحد فقط، وإلا فإنه إذا اتّخذ منحًى آخر يؤكد الشريعة وأصولها كقاعدة للتعامل مع الآخر، فإنه عندئذ يصبح تطرفا لا تطورا، وجمودا فكريا، لا تطورا فكريا.
أما تقديم مثال محمد عبده، وكأنه حمل راية التنازل عما كانت عليه الشريعة في العصور الوسطى، فهو غير صحيح ألبتّة. فمحمد عبده نظر إلى تراجع الأمة وانهيار مقومات تماسكها أمام المدّ العلماني الغربي، فخشي أن تهيمن هذه العلمانية بفكرها المدمّر على الأمة، فسعى إلى البحث عن طريق يخرج الأمة مما هي فيه، بعد أن وجد أنها في حالتها تلك لا يمكنها أن تصمد أمام المدّ الغربي الذي بدأ يتغلغل في جسدها، وكان ذلك بالدعوة إلى إعادة الإسلام إلى مرونته التي بدأ بها، والتي من خلالها استطاع استيعاب ثقافات الأمم الأخرى. وهذا يعني أن الإسلام من بداياته كان يحمل هذا الطابع المنفتح على شعوب الأرض كلها وعلى ثقافاتها المتنوعة. وفي التالي فإن محمد عبده لم يأت بجديد لم يكن سابقا، وإنما أحيا ذات المفاهيم التي جاء بها الإسلام بداية. وكانت قاعدة محمد عبده في هذا أنه لا يرفض القديم لمجرد أنه قديم، ولا يتبنى الحديث لمجرد كونه حديثا، وإنما تمسك بقوة بكل قديم ينفع الأمة وكل حديث يصلح من أحوالها. وهذا تستطيع أن تجده على طول التاريخ الإسلامي، وليس فقط في عصرنا الحديث. ولعلّ رايتر تغاضى عن قصد أن محمد عبده ظهر في عصر كانت بلاد المسلمين مستباحة من دول الاستعمار الغربية. ولو أنه ظهر في عصر وفي مكان يحكم فيه الإسلام لربما لم نكن سنسمع عنه أو منه، أو ربما كان سينحى منحى آخر يتناسب مع المرحلة زمانا ومكانا. نقول هذا رغم المآخذ الكثيرة التي لنا على منهج محمد عبده. لكن رغم هذه المآخذ فإن ضرب ما جاء به الرجل مثلا لتأكيد ما يذهب إليه رايتر لا يصحّ ولا يصلح.
في الصفحة (42) يسوق رايتر جملة ذات مرمى يقتبسها من كتاب “الإسلام والمعاهدات الدولية” للدكتور محمد عفيفي، والتي يقول فيها إن القرآن الكريم فيه آيات تؤكد وجود علاقات بين الدول الإسلامية والدول غير الإسلامية، وإنه لا مانع من اعتراف الدول الإسلامية بالدول غير الإسلامية، وذلك بسبب وجودها الفعلي، ولكونها تتمتع بالسيادة أو بسبب مصالح مشتركة بينها وبين الدول الإسلامية. وهذا الكلام يوصلنا طبعا إلى الدولة الإسرائيلية التي هي موجودة فعلا وتتمتع بالسيادة، وهناك مصالح مشتركة بينها وبين الدول الإسلامية. لذلك فإن السلام معها مشروعٌ وله سندٌ من الشريعة الإسلامية. هذا ما يريد رايتر أن يوصلنا إليه.
(يتبع)…