بعيدًا عن جدل التطبيع.. المنقوش والتبعية الامريكية في إدارة الصراع
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
أثار اللقاء الذي تمَّ بين وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين ونجلاء المنقوش، ردود فعل غاضبة ليس لها نظير في تاريخ الدبلوماسية الإسرائيلية، وصدرت تصريحات منسوبة لشخصيات نافذة في “الموساد”- عراب التطبيع الأول والرسمي مع الأنظمة العربية-، ونخب دانت فيه الإعلان وتخطيره حياة المنقوش، كما أن الولايات المتحدة عبر قنواتها الرسمية المختلفة أرسلت برسائل شديدة اللهجة إلى الخارجية الإسرائيلية ورئاسة الوزراء. ووفقًا لمصادر أمريكية جاء في الرسالة أن الكشف عن اللقاء “قد يكون أنهى جهد سنتين قامت به الولايات المتحدة لتقريب ليبيا من اتفاقيات أبراهام، ومن شأنه أن يدفع دولًا أخرى للانخراط في تفاهمات تعاون وتطبيع مع إسرائيل”. وجاء وفقًا للعتاب الأمريكي للإسرائيليين “بعد تسرب الخبر كان يمكن للخارجية الإسرائيلية أن تقول للصحافيين: لا تعقيب، بدلًا من أن يخرج وزير الخارجية ويتغنى علنًا بلقاء سري”.
العديد من دوائر الإعلام المقربة من الدوائر الليبية النافذة المتعلقة بالدبيبة وحفتر تتحدث عن اتفاق بينهما على التطبيع مع إسرائيل وبالتالي اللقاء الذي تمّ بين الوزيرين متفق عليه من أعلى المستويات، وإقالتها نوعٌ من ذر الرماد في العيون لتجنب الغضب الشعبي الليبي.
في هذه المقالة لن أناقش تداعيات التطبيع، إذ تنطلق هذه المقالة من أن التطبيع مع العالم العربي قائمٌ فعلًا، إلا أنه لم تحن لحظة الإعلان عنه رسميًا تبعًا للدولة المطبعة وما يجري على المسارين السعودي الإسرائيلي وبيان الكويت أنها ستكون آخر المطبعين بيان لما أشير إليه.
السؤال، لماذا هذا القلق الأمريكي الذي اعتبر الكشف تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية؟ فأين هي مصالحها الاستراتيجية في مثل هذه القضية وكل مراقب إعلامي- سياسي ودارس للعلاقات الدولية في منطقتنا بعد الربيع العربي يعلم الدور الأمريكي والغربي عمومًا في استثمار التيه الحاصل في المنطقة وإبعاد الحركات الإسلامية خاصة الإخوان المسلمون عن المشهد السياسي لصالح التمكين الإسرائيلي في المنطقة. فهل هذا التمكين هو المصلحة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة؟ أم أنَّ الكشف عن وجه وحقيقة المنقوش هو المصلحة الاستراتيجية؟ خاصة وأنها بهذا الكشف تكشف عن جوهر الشخصيات التي يتمّ تخريجها من الجامعات الأمريكية وتتشرب الفكر والسياسة الأمريكية لتكون أداة من أدواتها في تسيير مصالحها الإستراتيجية جنبًا إلى جنب، وأدواتها المختلفة النافذة والمهمة من مال وقوة عسكرية وأمنية ونفوذ إقليمي وعالمي لا يخفى على أحد قط.
الجهد الإسرائيلي للاختراق لم يتوقف للحظة
إسرائيل منذ قيامها عام 1948 لم تألُ جهدًا بالعمل على اختراق العالمين العربي والإسلامي وبناء علاقات مع الحكومات والنخب، وكان للموساد واللوبيات الصهيونية ولا يزال الدور الأساس في تحقيق هذه العلاقات، كما أن للأمريكيين الدور الأساس والكبير برسم أنها الحاضن للدول العربية ولإسرائيل في المنطقة ولطالما حافظت على سرية اللقاءات مهما كانت بسيطة، وراكمت على هذا الأساس علاقات استحالت بعد عقود إلى حقيقة واقعة، ومن نافلة القول أن أشير هنا إلى التطبيع المبكر مع مصر والدور المغاربي الخفي واللقاءات السرية، كما اللقاءات المبكرة مع القيادات الفلسطينية النافذة في منظمة التحرير والتي زاوجت بين الاختراق الأمني والاغتيالات للشخصيات التي تتوقع أن تكون عقبة كؤود، وتليين المواقف مع من يمكن أن يكونوا أدوات للتطبيع، والنتيجة أمامنا ماثلة بأوسلو التي يراها عديد المحللين الاستراتيجيين أنها نكبة ثالثة على شعبنا الفلسطيني بما أفرزته لاحقًا من تداعيات في المنطقة سياسيًا واستراتيجيًا على مستويات الجغرافيا السياسية والأمنية. ومنذ مطلع هذه الألفية تقوم واشنطن بدور هائل وكبير في العمل على ترسيخ الوجود الإسرائيلي ونفي تخطير وجودها نهائيًا وجعلها شريكًا أساسًا واستراتيجيًا في المنطقة ونقل العلاقات من السر إلى العلن، ومن دوائر المخابرات والأمن إلى الواقع المدني، ولعل البيان الصادر عن الخارجية الإسرائيلية يكشف جانبًا مما أشير إليه. إذ جاء في البيان: “ناقش الوزيران خلال اللقاء الذي عقد بوساطة وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، في العاصمة روما، العلاقات التاريخية بين البلدين وإمكانية التعاون بين الدولتين والمساعدات الإسرائيلية في القضايا الإنسانية والزراعة وإدارة المياه”. وليضع القارئ الكريم والقارئة الكريمة خطًا تحت “العلاقات التاريخية بين البلدين”، وهو ما لم تتطرق إليه رسميًا المؤسسات الليبية الحاكمة. وفي تصوري لن يحدث لنجلاء المنقوش أي مكروه على المستويات الرسمية الحاكمة فهي تتمتع بحماية أمريكية وأوروبية مطلقة.
يلعب الأمريكيون دورًا أساسًا في التأثير على النخب التي تتعلم في الجامعات الأمريكية بمنح أمريكية ثم تعود إلى بلادها لتتولى مناصب حساسة فيها، سواء على المستوى السياسي أو الأمني أو العسكري. ونجلاء المنقوش واحدة من هذه الشخصيات التي تمَّ العمل عليها وتصنيعها في معامل ومختبرات الفكر الأمريكية.
للأمريكيين مصالح استراتيجية كبرى في المنطقة تصبّ في دوام سيطرتها وتحكمها وتسيدها، وتستعمل في تحقيق هذه المصالح السياسات الخشنة، كما الحرب على الصومال وليبيا والعراق وتنظيم الدولة، والسياسات الناعمة، كما تدمير الربيع العربي وجعله خريفًا، واختراق الجماعات الإسلامية والعروبية، وتمكين منظمات المجتمع المدني خاصة الحقوقية والنسائية، من نشر أفكار وقيم صادمة لمجتمعاتنا عبر بوابات الثقافة والفن والمنظومات ذات الصلة بالعالم الرقمي والتواصل الاجتماعي، ولهذه الأدوات دور أساس في تحقيق وتمكين هذه القيم.
المصالح الأمريكية الاستراتيجية كما أراها تُختصَر بـ “الثقافي، الأمني، السياسي، الاقتصادي”، فالولايات المتحدة تريد أن تكون القميص الذي يلبسه الفرد العربي والمسلم فكرًا وثقافة وعقلًا وسلوكًا ومن ثم سياسًة وأمنا واقتصادًا. ولذلك ثارت ثائرتها على ربيبتها إسرائيل ليس لأن الخارجية الإسرائيلية كشفت عن اللقاء وبررت ذلك منطقيًا بدعوى أنَّ بعض الصحفيين قد اطلع على هذا اللقاء وتم تسريب معلومات عنه، علما أنه تم تحت رعاية إيطالية رسمية عليا، وفي ذلك إشارة إلى التكامل الأوروبي في تحقيق التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي وضمه إلى الحظيرة الابراهيمية، بل سبب الكشف المبكر عن شخصية تعدها واشنطن لما هو أهم في مستقبل ليبيا.
الولايات المتحدة وفي ظل التحولات العالمية الجارية مدركة تمامًا لحجم هذه التحولات وتسعى للحفاظ على تسيدها وكونيتها من خلال العديد من الأدوات التي بحوزتها ومن ضمن هذه الأدوات تلكم الجموع التي يتم تعليمها وتصنيعها في المختبرات السياسية الأمريكية لتكون لابس القميص الأمريكي في السياسات المحلية، خاصة بعد أن تدافع العالم أجمع في سياقات النظام الدولي الآخذ بالتفكك. تشكل المنقوش وأمثالها من أبناء العالم الثالث ممن درسوا ويدرسون في الولايات المتحدة، أحد أعمدتها الاستراتيجية في تحقيق نفوذها الإقليمي والدولي.
في تصور كاتب هذه السطور، أنَّ واشنطن أصابها القلق من الكشف عن المنقوش خاصة وأنها شاركت في برنامج “فولبرايت” المشهور أمريكيًا الصادر عن الخارجية الأمريكية والذي هو عبارة عن منحة دراسية لإكمال الدراسة في الجامعات الأمريكية بتمويل أمريكي، ويعتمد إشاعة القيم والثقافة الأمريكية، وهو برنامج يستهدف طلبة الدراسات العليا والفنانين من كثير من دول العالم، والمنقوش شاركت في أحداث ليبيا عام 2011 وكانت طلائعية مما منحها بُعدًا “وطنيًا” يمكن الاتكاء عليه كرصيد أخلاقي يشكل جسرًا لما هو قادم. وقد قال عنها موقع مركز الأديان العالمية والدبلوماسية وحل النزاعات (CRDC): “إنها حصلت على الماجستير في القانون الجنائي من جامعة بنغازي (قاريونس آنذاك)، ثم ماجستير في إدارة الصراع والسلم من جامعة “إيسترن مينونايت”، ثمّ دكتوراه في إدارة الصراع والسلم من جامعة جورج مايسون. وحازت على منحة برنامج “فولبرايت” لدراسة الماجستير في مجال تحويل النزاعات من مركز العدالة وبناء السلام (CJP) في الولايات المتحدة، تعد أستاذة قانون، ومحامية في القانون الجنائي، وتركز في بحوثها وعملها على عملية الانتقال من الحرب إلى السلم وبناء السلم. انظر، موقع العربية لتقرير “إيلي كوهين “وإثارة زوبعة.. ما لا تعرفه عن نجلاء المنقوش..”.
تتبع سياسات المنقوش منذ توليها منصب وزير الخارجية في ليبيا عام 2021 وإلى هذه اللحظات، يفيد أنها كانت تدير صراعًا مع عدة أطراف وتنفذ أجندات تصب في مصلحة واشنطن ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، تصريحها لشبكة البي بي سي أن بلادها على استعداد لتسليم ضابط المخابرات الليبي محمد مسعود خير المريمي المعروف بأبي عجيلة والصادر بحقه في عام 2020 تذكرة اعتقال أمريكية على خلفية حادثة لوكربي عام 1988 واتهمت فيها المخابرات الليبية في عهد القذافي التي دفع ثمن ضحاياها مبالغ مثيرة للغاية. تصريحاتها أثارت المجلس الرئاسي الليبي وطالب المجلس بوقف عملها إلا أن الدبيبة رفض ذلك وفي 12ديسمبر كانون أول من العام الفائت 2022 تم تسليم المريمي إلى السلطات الأمريكية.
إذًا، نحن أمام شخصية تمّ العمل والتعب عليها وصرف مال كثير وكبير لتصل إلى ما وصلت إليه بعيدًا عن أعين العامة من الليبيين ولتتسيد مكانة رئيس في مستقبل ليبيا خاصة مع الحملة العالمية التي نشهدها ذات العلاقة بالتمكين النسوي السياسي في عالمنا العربي والإسلامي، ومن ثم فالخسارة في السياق الاستراتيجي للولايات المتحدة أكبر بكثير مما هو للإسرائيليين الذين يعملون على بناء علاقاتهم مع الحكومات العربية من خلال ما أشرت اليه آنفا فضلًا عن يهود تلكم البلاد المهاجرة.