معركة الوعي (169) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (7)
حامد اغبارية
يقول رايتر في الصفحة (33) من كتابه إن (علماء مسلمون أفتَوْا مع بداية الخلافة الأموية بأنه يحق للخليفة المسلم أن يدفع فدية مالية للعدو في حال وجود ضرورة آنية. أما هذه الفتاوى فهي مشتقة من الحديث النبوي، حيث كان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) على أهبة الاستعداد لأن يدفع لاتحاد القبائل الذين حاصروا مدينته (واقعة الأحزاب) ثلث محصول التمر في المدينة المنورة (يثرب) مقابل رحيلهم).
فما حقيقة هذا الموقف؟ وهل فعلا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفع لاتحاد القبائل (الأحزاب) ثلث محصول تمر المدينة مقابل رحيلهم؟
هذا كلام غير دقيق، تلاعب رايتر في حقيقته وفي ألفاظه. فالقصّة أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما اجتمعت (الأحزاب بقيادة قريش) بتحريض من يهود بني قريظة لقتال المسلمين في المدينة، أشفق النبيّ على الأنصار، وأراد أن يخفف عنهم فرأى أن يعرض ثلث تمر المدينة على قبيلة واحدة من تلك القبائل التي اجتمعت للقتال، وهي قبيلة غطفان، وليس على (اتحاد القبائل). وقبل أن يتفق مع قادة غطفان استدعى سادة الأنصار (سعد بن عبادة وسعد بن معاذ) فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا له : يا رسول الله، أمرا نحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرًى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ (والله) ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك.
ولاحِظ أن النبيّ عليه السلام أشفق على الأنصار خاصّة، ولم مُستثنيًا نفسَه والمهاجرين، فأراد إضعاف جبهة الأحزاب من خلال ذلك الاتفاق مع غطفان. ولعلّ الآية الكريمة تبيّن حقيقة الأمر، حيث يقول الله تعالى واصفا ذلك المشهد: {وَلَمَّا رَءَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْأَحْزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّآ إِيمَٰنًا وَتَسْلِيمًا} (سورة الأحزاب: 22). فبماذا وعد اللهُ ورسولُه المؤمنين؟ تجد الجواب في بشرى النبيّ صلى الله عليه وسلم أثناء حفر الخندق في أكثر حالات الشدّة والضيق وهو يضرب الصخرة التي اعترضتهم في الخندق ويقول: {اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال : اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، ثم ضرب الثالثةَ وقال : بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال : اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ} (رواه أحمد والنسائي).
لذلك لو نظرت إلى موقف النبي عليه الصلاة والسلام في قضية تمر المدينة مع غطفان، فإنك ستجد أنه عمليا جزء من المواجهة العسكرية، أو جزء من خطة المواجهة، كما كان حفر الخندق حول المدينة جزءًا من الخطة كذلك. فقد كان عنوان هذه الغزوة هو “الثبات” وعدم التسليم والتراجع. وهذا ليس له علاقة بما ذهب إليه رايتر فيما يتعلق بجواز دفع الخليفة فدية مالية للعدو في حال وجود ضرورة آنية، بل لو وقع هذا فعلا، فإنما يكون جزءًا من المواجهة الشاملة ومرحلة من مراحلها. والسؤال: أي نظام من أنظمة العرب اليوم عقد اتفاقية “سلام” مع الاحتلال الصهيوني وهو يفكّر بتحرير القدس والأرض المحتلة مثلا؟ أي نظام من هذه الأنظمة جعل هذه الاتفاقيات جزءًا من خطته بعيدة المدى التي يسعى بواسطتها إلى استعادة حق المسلمين والعرب والفلسطينيين في القدس والأقصى؟
لقد وضع الإسلام شروطا وضوابط للمعاهدات والمهادنات بحيث تكون موافقة للشريعة وللأهداف التي أجيزت لأجلها. يقول شيخ الأزهر الأسبق الدكتور محمود شلتوت (1893- 1963): “والإسلام حينما يترك للمسلمين الحقَّ في إنشاءِ المعاهدات – لِمَا يَرَوْنَ من أغراض- يشترط في صحَّة المعاهدة شروطًا ثلاثة: أوَّلها: ألاَّ تمسَّ قانونه الأساس وشريعته العامَّة، التي بها قِوَامُ الشخصية الإسلامية، وقد جاء في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ”(رواه البخاري). ومن هذا الشرط لا يَعْتَرِفُ الإسلامُ بشرعية “معاهدةٍ” تُسْتَبَاحُ بها الشخصية الإسلامية، وتفتحُ للأعداء بابًا يُمَكِّنُهم من الإغارةِ على جهات إسلامية، أو يُضْعِف من شأن المسلمين، بتفريقِ صفوفِهم، وتمزيقِ وَحْدَتهم”. والآن حاول أن تُسقط هذا الكلام على حالة العرب والمسلمين مع المشروع الصهيوني الذي أغار ويُغِير على جهات وجبهات إسلامية صباح مساء، من غزة إلى الضفة إلى لبنان إلى دمشق إلى تونس إلى ليبيا إلى العراق.. واستباح الشخصية الإسلامية وعمل على تشويهها، وسعى ويسعى إلى إضعاف شأن الفلسطينيين والعرب المسلمين ففرّق صفوفهم أيدي سبأ وشتت وحدتهم حتى بات الصراع الدامي بينهم أشد من صراعهم مع الاحتلال؛ الذي وفّروا له كل ظروف التمدد والاستقرار والتمكين في أرض المسلمين !!
أما ثاني الشروط التي أشار إليها الدكتور شلتوت: “أنْ تكونَ مبنيةً على التَّراضي من الجانبين؛ ومن هنا لا يرى الإسلام قيمة لمعاهدة تنشأ على أساسٍ من القهر والغلبة وأزيز “النفَّاثات”، وهذا شرط تُمْلِيهِ طبيعة العقد، والمعاهدة للأُمَّة عقدُ حياةٍ أو موتٍ!”. فكيف هو حال العرب والمسلمين وهم يعقدون الاتفاقيات والمعاهدات مع المشروع الصهيوني على أساس القهر والغلبة وعلى صوت أزيز طائراته التي تدكّ البيوت فوق رؤوس أهلها الفلسطينيين والعرب والمسلمين؟!!
أما الشرط الثالث عند الدكتور شلتوت: “أنْ تكونَ المعاهدة بيِّنةَ الأهدافِ، واضحةَ المعالمِ؛ تُحَدِّدُ الالتزامات والحقوق تحديدًا لا يَدَعُ مجالاً للتأويلِ والتَّخريجِ واللَّعِبِ بالألفاظ”، ثم يقول: “وما أُصِيبت معاهدات الدول المتحضِّرة -الَّتي تزعم أنها تسعى إلى السلم وحقوق الإنسان- بالإخفاقِ والفشلِ، وكان سببًا في النَّكباتِ العالميَّةِ المتتابعة، إلاَّ عن هذا الطريق؛ طريق الغموض والالتواء في صَوْغِ المعاهداتِ وتحديدِ أهدافها”. وإنك لتجد جميع المعاهدات التي عقدها الفلسطينيون والعرب مع المشروع الصهيوني بدءًا من “كامب ديفيد” ووصولا إلى “أوسلو”، ثم ما يسمى باتفاقيات إبراهيم (أو بتعبير أدقّ: اتفاقيات أبراهام) مليئة بالغموض والبنود السرية والصياغات التي تقبل تأويلات هي في حقيقتها تخدم مصلحة المشروع الصهيوني وأهدافه. وهذا ينسحب حتى على قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية. فقد صيغت بطريقة تقبل التأويل، وتمنح الطرف القوي (المشروع الصهيوني) أن يتلاعب ويفسّر القرارات على هواه، ناهيك عن عدم التزامه بها أصلا.
ولقد أمر الإسلام بالوفاء بالعقود وعدم نقضها مهما كان الثمن. وفي هذا ردٌّ على مزاعم رايتر ومَن يأخذ عنهم ذلك التاريخ المشوّه. فقد أجمع الفقهاء على أنه من واجب المسلمين أن يخرجوا للجهاد خلف الأمير الصالح والأمير الفاسق على حد سواء، لكنهم أجمعوا على أنه لا يجوز الجهاد خلف أمير ينقض العهود ولا يلتزم بها. فانظر إلى هذه المعادلة الخطيرة وتأملها جيّدا.
وعلى عكس ما يجري اليوم من نقض المعاهدات والغدر بالبث المباشر في عالم اليوم الذي يسمونه “العالم المتحضر” فإن الإسلام يرى أن تغيّر الظروف لا يبرر نقض العهود والاتفاقيات والمهادنات. ولو طرأت ظروف معيّنة يعجز فيها المسلمون عن الوفاء بالعهد، بغير إرادتهم وليس عن نية مبيّتة، فإنه يجب عليهم مراعاة ظروف والتزامات الطرف الثاني (العدوّ). وقد سطر تاريخ المسلمين المُشرق مواقف لا يمكن لمنصف إلا أن ينحني لها احتراما وتقديرا. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، قصة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لمّا سيطر على مدينة حمص في بلاد الشام وأخذ من أهلها الجزية، ثم اضطر للانسحاب منها لأسباب عسكرية أمام الروم، فردّ الجزية إلى أهلها وبعث إليهم قائلا: “إنما رَدَدْنا عليكم أموالَكم، لأنَّه بلغنا ما جُمِعَ لنا من الجموعِ، وأنَّكم قد اشترطتم علينا أنْ نمنعَكم، وإنَّا لا نقدر على ذلك. وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشَّرْطِ وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم” يقصد على الروم. (انظر: كتاب “الخراج” للقاضي أبي يوسف؛ يعقوب بن إبراهيم، ص 139). وفي قصة الصحابيّ الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، مع أهل قريش يوم غزوة بدر الكبرى صفحة مشرقة أخرى. فقد كان قد خرج هو وأبوه حُسَيل بن جابر من مكة إلى المدينة، فأسرهُما كفار قريش في الطريق وسألوهما: إنكم تُريدون محمدًا؟ فقالا: ما نُريده، ما نُريد إلا المدينة. فأخذوا منهما عهد الله وميثاقه أن ينصرفا إلى المدينة ولا يقاتلا مع النبيّ، فأتيَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه الخبر، فقال: “انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ”. فالوفاء بالعهد دِينٌ ودَيْنٌ، رغم أن هذا الاتفاق كان اتفاقا فرديا عقده صحابيان تحت الضغط والتهديد والأسر. فمن ذا الذي يجرؤ من أئمة المسلمين وقادتهم وخلفائهم أن يغدر أو ينفض عهدا أو اتفاقية؟! ثم قارن هذا مع سلوك المؤسسة الإسرائيلية في “معاهداتها وعقودها” مع الفلسطينيين أو أنظمة العرب، كيف لم تترك فرصة ولا وسيلة لنقض العهود والغدر إلا وتركت فيها أثرا عميقا.
(يتبع)…