وللنجاح ضريبة..
ليلى غليون
إنَّ الذي يقف في المقدمة هو المعرض للركل، وإن الشجرة المثمرة هي المعرضة دائمًا للرمي فهي التي تتطلع إليها العيون وتهفو إليها النفوس، فيرميها الناس بالحجارة فترد عليهم بجودها وكرمها فتغدق عليهم بأطيب ثمارها، لأن هذا شأنها وهذا ديدنها ولا يمكن لها أن تكون غير ذلك، كيف لا وهي تغذت وسقيت بالعطاء ونمت على العطاء ولا تستطيع إلا أن تعطي مهما كانت الظروف والأحوال.
إنَّ للنجاح ضريبة قد يدفعها الإنسان أثناء ارتقائه سلم النجاح والتميز، وسيره في المقدمة، وقد تكون الضريبة باهظة، فقد تكون غيرة وحسدًا وتثبيطًا ينثر أشواكه المثبطون في طريق الناجحين العاملين أصحاب الهمم والطموح في مسعى منهم لعرقلة سيرهم وتقدمهم، لا بل قد يصل بهم الأمر لازدراء وتهميش وتحجيم أي عمل ناجح مميز مهما كانت عظمته وأهميته، ولكن تبقى الحكمة والتعقل في التعامل مع هؤلاء المثبطين هي سيدة المواقف، ويبقى امتلاك المهارة والقدرة على فهم طبيعة النفوس واستيعابها على اختلافها هي المياه الباردة التي من شأنها أن تطفئ أو تخفف من حدة ضراوة نار الحسد أو الغيرة المشتعلة في نفوس هؤلاء. فالمثبطون كثر، والمتصيدون بالمياه العكرة لا يقلون عنهم، والمتربصون بالناجحين لا يألون جهدًا ولا يفوتون فرصة لركل من يقف أو يتقدم أمامهم، وما أبلغ ما قاله ذاك الحكيم: (إذا ركلك أحد من الخلف فاعلم أنك في المقدمة) أرأيت أحدًا يركل من خلفه!! تراهم يتربصون منهم زلة أو عثرة أو أي خطأ، لا بل يستميتون في محاولاتهم الفاشلة لإلغاء نجاحاتهم ويسبغونها بالأخطاء والتحقير.
هنا يتطلب الأمر وقفة عقلانية مع هؤلاء، يتطلب طول نفس، يتطلب صبرًا، يتطلب تأنيًا، يتطلب تجردًا من حظوظ النفس وعدم الاندفاع بالعواطف أو المشاعر السلبية للرد عليهم، حتى تمر الزوبعة التي أثاروها بسلام والتي لن يكون حصادهم منها سوى الغبار.
إنَّ الذين يثيرون الضجيج في الغالب هم الفارغون، أرأيت الطبل كم صوته يصمّ الآذان؟ نعم، ولكنه في الأصل فارغ، تراهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها يجعجعون بمشاريع ضخمة ولكنها وهمية كسراب يحسبه الظمآن ماء، لا تبرح لسانهم وليس لها أي رصيد في دنيا الواقع، تراهم كثيري الكلام، قليلي العمل، يجلسون في برج عاج منه يسلطون سهام انتقاداتهم وكلامهم الفارغ فراغ أرواحهم وعقولهم ونفوسهم.
تراهم كالأصفار، ولكن على يسار الأرقام يعيشون بلا هدف ولا تخطيط، مكانهم لا يراوح هامش الحياة، ومع ذلك ما أطول ألسنتهم بل ما أمضاها عندما يجردونها من أغمادها فتنطلق لتطعن وتجرح وتسفه وتحتقر وتشكك بأعمال الناجحين ومشاريعهم، بل ترى أصحاب هذه الألسن يكادون يموتون غيظًا وهم يشاهدون نجاحات الغير تترى، فيسارعون في ازدرائها وتصغيرها وتهميشها ويمطرون على أصحابها وابلًا من كلامهم الجارح، فيصبون عليهم جام انتقاداتهم ويفرغون ضغائن صدورهم.
أما الناجحون العاملون المثابرون فصورتهم السكينة والوقار، أعمالهم كثيرة وكلامهم بالجمل، لا يتعب من يحصيه لقلته لأنهم لا يتقنون لغة الكلام بقدر اتقانهم لغة العمل، بل ليس لديهم وقت للكلام فهم كالنخلة أو النحلة لا فرق، مشغولون في جمع الرحيق ليحولونه إلى عسل مصفى سائغ شرابه، فيه شفاء للناس.
هم كالسنبلة الممتلئة التي يغلب عليها السكون والوقار، والتي لا ترى إلا خاشعة منحنية تكاد جبهتها تلامس الأرض تواضعًا وكأنها في ركوع أو سجود وهي حبلى بالحب والخير الوفير، بعكس السنبلة الفارغة اللعوب التي تسير مع الريح حيث سارت، لا تعرف لها وجهة، تتمايل تارة يمنة وتارة يسرة حتى إذا هدأت الريح شمخت برأسها استعلاء واستكبارًا ورصيدها من العطاء دون الدون.
ملأى السنابل تنحني تواضعًا والفارغات رؤوسهن شوامخ
أيها الناجح العامل، امض في طريقك وصم أذنيك عن هتافات التثبيط، بل ألغ حواسك وأنت تمر عليهم، واقفز عن الأشواك التي وضعوها من أجل عرقلة تقدمك وسيرك إن لم تستطع إزالتها، إنك لن تخسر شيئًا عندما لا ترد عليهم، وإنهم لن يضروك شيئًا، واعلم أن الإناء بما فيه ينضح، وإناؤهم مليء بالغيرة والحسد، أمّا إناؤك أنت فهو طافح بالخير والحب والإحسان، فهل يستوي إناؤك وإناؤهم؟!
نعم أيها العامل الناجح المثابر، امض ولا تتوقف وكن كتلك النخلة التي هبطت عليها بعوضة ذات يوم، فلما أرادت أن تطير قالت للنخلة: تماسكي أيتها النخلة لأني أريد أن أطير، فقالت النخلة للبعوضة: والله ما شعرت بك يوم وقعت فكيف اشعر بك إذا طرت.