“عِلّة المعقولية” الإسرائيلية
المحامي خالد زبارقة
لفهم الحالة الإسرائيلية الحالية والأحداث الجارية في هذه الأيام، نكتب هذا المقال بطريقة سؤال وجواب.
- ما المقصود بـ “علّة المعقولية” التي ثارت في هذه الأيام في الشارع الإسرائيلي، وأدَّت إلى هذه الموجة من الاحتجاجات؟ “المعقولية” من المعقول وهو المنطق السليم، و”عِلّة المعقولية” في المفهوم الإسرائيلي هي: الحجة التي تستند إليها المحكمة الإسرائيلية في ممارسة الرقابة والتدخل في القرارات الإدارية والحكومية التي يتخذها الجهاز الإداري أو التنفيذي أو السياسي في إسرائيل.
ومن خلال هذه الحجة يفحص الجهاز القانوني، وخاصة محكمة العدل العليا الإسرائيلية، القرارات بمنظور المنطق السليم، وهذه الحجة تعتمد بالأساس على أخذ كافة الاعتبارات ذات الصلة في القرار وتقدير وزن كل اعتبار بالشكل الصحيح فإذا اختل التقدير أو لم تقدّر الاعتبارات بشكل صحيح قد يبطل القرار، هذه العلّة لم تنظم نصًا في القانون الإسرائيلي وإنما هي نتاج قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية التي هي بمثابة تشريع يجب الانصياع لها.
- ما هو الخلاف بين الأطراف المتناحرة؟
أولا وقبل كل شي، فإنَّ الأطراف المتنازعة هي المجموعات الدينية المتطرفة والليبرالية اليمينية وليس خلافا بين اليمين واليسار كيفما يشاع.
يعتبر الموالون لهذه العلة أنها إحدى الأدوات القانونية الضرورية لممارسة الرقابة القضائية على الجهاز الإداري والتنفيذي والتشريعي، ولحماية الحقوق الأساسية للمواطنين من تغول السلطة الرسمية، وحماية الأقليات وحقوق الانسان، وهي جزء من الأدوات القانونية التي تحمي مبدأ سلطة القانون، وخاصة في ظل غياب دستور إسرائيلي، ويعتبرونها ضرورية من أجل مبدأ التوازنات والفرامل، بين السلطات المختلفة، كون أن الجهاز القضائي الإسرائيلي، بمفهومهم، يحتكم إلى القانون بدون أية اعتبارات سياسية أو حزبية، ويعطي المحكمة العليا الإسرائيلية مساحة للأخذ باعتبارات أوسع من الاعتبارات الحكومية/ الحزبية الضيقة.
في حين يعتبر المعارضون لسريان مفعول هذه العلة أنها تُقيّد العمل الحكومي والإداري، وتؤدي إلى إعاقة وتعطيل عملهما، وبسببها تمَّ التراجع عن الكثير من القرارات الإدارية الضرورية لعمل الحكومة، كما ويعتبرونها إحدى أدوات السيطرة الموجودة بيد الأقلية “النخبة” في المجتمع الإسرائيلي التي من خلالها يسيطرون على الحياة العامة في الدولة، ويعتبرون أن ممارسة هذه العلة على يد المحكمة يُحدث خللا في مبدأ الفصل بين السلطات، وتدخلا في قرار الناخب الذي اختار الأغلبية وشكّل حكومة ويسعى إلى تمرير مخططاته كما يراها مناسبة، كما ويعتبر أن النظام الديموقراطي يتيح له سن القوانين التي يراها دون تدخل من الجهاز القضائي ويعتبر انه يمارس حقه في الحكم.
- لماذا كل هذه الاحتجاجات على هذا الموضوع؟
أولًا: لأن إبطال تقييد علة المعقولية أو تقييدها يعتبر خطوة أولى في سلسلة خطوات تقوم بها الحكومة ستؤدي إلى تغيير نظام الحكم في إسرائيل، من نظام حكم ليبرالي ديموقراطي، يستأنس بالمفاهيم اليهودية، إلى نظام حكم ديني يهودي يركز بالكامل على المفاهيم اليهودية الدينية التلمودية ذات المفهوم الصهيوني. بمعنى آخر، تشكيل حكم ديني يهودي حسب ما يراه الحاخامات اليهود الذين يشكلون المرجعيات الدينية للأحزاب اليهودية.
ثانيًا: الخطوة التالية ستكون تقييدا لصلاحيات المستشارة القانونية للحكومة، وتشكيل لجنة تعيين قضاة موالين للحكومة تستطيع الحكومة من خلالها تعيين القضاة موالين لها وخاصة في المحكمة العليا، والذين يؤمنون بعقيدتها؛ وبالتالي تنفيذ سياساتها القضائية على أرض الواقع.
ثالثًا: تقييد عمل المستشارين القانونيين في الوزارات المختلفة أو إعطاء صلاحية تعيينهم للوزير نفسه؛ وبالتالي تجاوز القيود القانونية التي تنظم عمل الوزارات وعمليات اتخاذ القرارات، والتي من المفروض ان تحتكم الى القانون وليس الى القرار السياسي.
رابعًا: الصراع الطبقي بين “النخب” الإسرائيلية التي بيدها مراكز القوة وتشكل الدولة العميقة والتي تسعى بكل قوتها إلى استمرار سيطرتها على المقدرات والموارد والقرار، وبين المجموعات اليهودية المهمشة التي ازدادت قوتها في السنوات الأخيرة- بسبب عمليات التغيير الاجتماعي والديموغرافي التي حدثت في إسرائيل- والتي تسعى بكل قوتها إلى إحكام سيطرتها على الجهاز الإداري الإسرائيلي بعد أن وصلت إلى سدة الحكم.
خامسًا: من ناحية نتنياهو فهو يعلم جيدًا أن الدولة العميقة قامت بملاحقته، وفتحت عليه عدة ملفات جنائية من أجل إجباره على الاستقالة، وفي حال تمت إدانته في هذه الملفات، أو في بعضها، فإنه معرض للسجن الفعلي لعدة سنوات، وهذا ما يثير مخاوفه بشكل كبير.
سادسًا: اليمين الإسرائيلي يعتبر أن الفرصة سانحة أمامه من أجل حسم الصراع مع الفلسطينيين، وهو يسابق الزمن في تنفيذ مخططاته، ويعتبر أي عرقلة في تنفيذ هذه المخططات يسحب من بين يده هذه الفرصة، التي لن تعود له مرة أخرى، ويعتبر أن المحكمة الإسرائيلية بما فيها المستشارة القانونية للحكومة والمستشارين القانونين للوزارات المختلفة عراقيل يجب التخلص منهم.
سابعًا: سعي الأحزاب الإسرائيلية الحريدية إلى حسم مسألة التجنيد في الجيش الإسرائيلي، وبلورة إعفائهم من التجنيد في قانون أساس يمنع المحكمة التدخل فيه، وهذا جانب آخر في هذا الصراع الدائر بين المجموعات الإسرائيلية المتناحرة، كون هذه المجموعات لا تشارك الخدمة في الجيش ولا تعمل، وبالتالي هي فقط مستهلكة للموارد الإسرائيلية دون أن يكون لها أي دور في الإنتاج، وينحصر دورها في دراسة التوراة في اليشيفوت.
ثامنًا: كلا الطرفين ينظران إلى إسقاطات هذه القرارات على الصراع القائم بينهما، وبما ان الخلاف عميق وبنيوي بين منهجيين منفصلين لا يلتقيان، فإن كل طرف مقتنع ان أي تراجع من طرفه يفقده إمكانية الاستمرار في ظل ظروف الطرف الآخر؛ ولذلك يبدي الطرفان إصرارهما على حسم الصراع لصالحه.
- أين العرب من هذا الصراع؟ ولماذا لا نسمع لهم صوتًا؟ علة المعقولية التي يتغنى بها اللبراليون الإسرائيليون لم تكن سارية المفعول في قرارات المحكمة العليا بخصوص القضايا التي تتعلق بالعرب، وفي السنوات الأخيرة سنّ الكنيست الإسرائيلي الكثير من القوانين العنصرية التي صادقت عليها المحكمة العليا ولم تتدخل في حماية حقوق العرب الأساسية، وهي التي أعطت الشرعية القضائية للكثير من القرارات والقوانين العنصرية وخاصة قانون يهودية الدولة (قانون القومية)؛ الذي يعطي الأفضلية العرقية اليهودية على سائر البشر.
كل هذه السياسات التي يتخوف منها المحتجون مارستها الحكومات الإسرائيلية على العرب بأقسى صورها، وما يعانيه المجتمع العربي اليوم هو نتاج هذه السياسات التي تعاونت فيها الأحزاب المتطرفة والليبرالية الإسرائيلية في السابق (اطراف النزاع اليوم). لا شك انه سيكون هناك تغول اكبر على العرب ووجودهم وستسود سياسات الاستباحة على العرب بشكل اكثر من السابق.
- هل يمكن حل هذه النزاع بين الأطراف المتصارعة؟
الصراع بين الأطراف الإسرائيلية المتصارعة صراع جوهري وعميق، وما حصل في الأشهر الاخيرة زاد الفجوة بين هذه المجموعات وخاصة بعد فشل الحوار بينها واستعمال قوة السلطة من طرف الحكومة والاحتكام الى الشارع من طرف المعارضة، وبسبب عدم توفر أرضية لتوافقات بين الأطراف، نظرًا لطبيعة الصراع، يبعد أي توافق مستقبلي بينها.