قانون إسكات الأذان… التحدي وتشخيص الحالة ..
صالح لطفي: باحث ومحلل سياسي..
منذ ان تمكن اليمين الاسرائيلي بكل مكوناته السياسية والدينية والتقليدية والشعبوية من تشكيل الحكومة لا يكاد يمر أسبوع ألا وتطرح في الكنيست قوانين او مقترحات قوانين تستهدف الانسان الفلسطيني على كامل تراب الوطن ، تستهدفه بشرا وتاريخا ، حضارة وثقافة ، دنيا ودين ، وكأن هذه المجموعة في صراع مع الزمن أو كأنها مصابة بداء سُعار ” الزمن ” تصارعه لإنجاز أكبر كم ممكن من القوانين أذ تعتقد أنها من خلال سن هذه القوانين يمكنها ان تحقق معادلات جديدة على ارض الواقع يفضي الى فرض سيادة يهودية على كافة مناشط الحياة على هذه الارض المباركة ويحدد معالم العلاقة مع الشعب الفلسطيني عموما والداخل الفلسطيني على وجه الخصوص.
هذه الحملة المحمومة من سياسات وقوانين هدفها إعادة برمجة الانسان الفلسطيني وتنميطه من جديد وفقا لرؤى مسيانية تعتمد الدولة ومؤسساتها كأساس في السياق الاسرائيلي لتحقيق سيطرتها على الحيز العام اسرائيليا والخاص فلسطينيا.
صار من نافلة القول الاشارة الى موضعة العلاقة في مختلف القضايا مهما صغرت في الداخل الفلسطيني بين اليومي والضروري وبين الوطني والقومي والديني وبين المطلبي والوجودي في ظل سياسات المؤسسة الاسرائيلية منذ ان قامت والى هذه اللحظات فقد عمدت هذه المؤسسة الى التعامل مع الداخل الفلسطيني كمعطى أمني ولمَّا تتخلص المؤسسة الاسرائيلية من هذه العقلية ويتعاظم الامر في ظل جماعات دينية خلاصية تعمل على تطبيق الشريعة اليهودية يكون الداخل الفلسطيني أحد مطاياها لتحقيق هذا ” الحلم”.
في عام 2010 صرح وزير الخارجية آنذاك، آفيغدور ليبرمان ووزير الداخلية إيلي يشاي ووزير الامن الداخلي يتسحاق آهرنوفيتش عن عزمهم على تهجير الفلسطينيين وتجريدهم من المواطنة ” الاسرائيلية ” وتهويد مدنهم وقراهم وشددوا على ان هذه هي الخطوط العريضة التي سيعملون على تحقيقها في العشرية القادمة .. طبعا كادت عشريتهم أن تنتهي وقد اختفى اثنان منهم عن الخارطة السياسية بيدَّ أن الأفكار التي يحملون ما زالت قائمة وصداها يجلجل في كل زاوية من زوايا هذه الدولة وما قانون الاذان الا صدى لهذه العقلية المريضة.
في هذا السياق تأتي قضية الداخل الفلسطيني كمجتمع أقلية صاحب ارض نُزِعَتْ منه ظلما وعدوانا عبر قوانين استحدثتها الدولة الناشئة لتحقق قضيتي التمكين والتهميش : التمكن لذاتها المتعينة بشرا وحيزا ، والتهميش لمن تبقى من الفلسطينيين منطلقة من انها تملك القوة والحقيقة التاريخية ولذلك تعتقد هذه المجموعة المسيطرة على الحياة السياسية والمشهد الثقافي وحتى العسكري والقضائي انها تملك الحق ” المطلق ” في أن تروي روايتها على اساس من مقولة توراتية ممزوجة سياسيا ، وفقا للسياق الحداثي الاسرائيلي ، بموروثات التاريخ حيث تزعم أنَّ المنتصر يكتب التاريخ وهي مسألة تحتاج الى نقاش عميق ونزيه خاصة في الحالة الفلسطينية وما تغشاها من آثام المؤامرة والخيانة.
في السنوات الاخيرة يتم تداول حالة الداخل الفلسطيني كأقلية موجودة اليوم بين ظهراني ” دولة اليهود” من حيث علاقاتها مع ” شعب اسرائيل ” خاصة في أروقة المدارس الدينية الصهيونية ومراكز البحث الاسرائيلية التي تبحث موضوعات الحالة اليهودية وعلاقاتها مع الاقلية العربية الفلسطينية والاقليات الاخرى.
يشير اليعزر حداد في دراسته الموسومة ” اقليات في دولة يهودية : توجهات شرعية ” الصادرة عن المعهد الاسرائيلي للديموقراطية الى وجود توجه شرعي [ هالاخاتي] – من ضمن توجهات اخرى- اسماه بالتوجه القومي [ داخل التيار الديني ,, ممثلا بالديني-الصهيوني ] يذهب الى أن التعامل مع الاقليات غير اليهودية يعتمد اساسا على مدى قبول هذه الاقلية للفرائض اليهودية انطلاقا من إقرارهم -أي هذه الاقلية – بأن تكون التوراة مصدر الصلاحيات وعلى مدى التزامهم بهذه الصلاحيات ، وتطالب هذه المجموعة بقبول هذه الاقلية لقوانين الدولة ” اليهودية ” والتماثل مع سلطاتها التشريعية كأساس لاستقرارها وتحقيق هويتها اليهودية بل وتذهب هذه المدرسة كما غيرها من المدارس الى ” تفهم” المجتمع الدولي المطالب بالمساواة في الحقوق بين كافة مواطني الدولة ، وهم لا يرون بذلك ضيرا … ووفقا للتكييف الفقهي اليهودي لهذا المطلب الاممي فأنهم يذهبون الى الاقرار بالحقوق الفردية فقط فيما يرفضون منحهم الحقوق القومية ( ص9) أي انهم يرفضون الحقوق الجماعية من منطلقات تشريعية -فقهية.
قانون إسكات الأذان.. تداخل الديني والسياسي..
تأسيسا على ما سبق وتكيفا مع التطورات التي رافقت طروحات وتشريعات قوانين إسكات الاذان التي لا زالت في طور التشريع، والحجج التي سعت الكتل اليمينية ، الليكود، يسرائيل بيتنو، البيت اليهودي، لسردها كمبررات لسن هذا القانون، ومع كل التعديلات التي رافقته وانتهت حتى هذه اللحظات فنحن امام تداخل بينِّ بين السياسي والديني في السياق اليهودي حيث يلتقيان: السياسي العلماني والديني الاصولي لتحقيق ثلاثة غايات تشكل الاساس للدولة ” اليهودية ” : الوجود اليهودي على هذه الارض يستمد صدقيته من القيم التوراتية والموروث اليهودي ، الحق على هذه الارض في قيام دولة ليهود كفلته الاسرة الدولية ، والحفاظ على اغلبية يهودية بشرية تعبر عن الهوية اليهودية ، ولذلك يصبح قانون الاذان واسكاته أبعد من ان يكون سياسيا صرفا واقرب الى ان يكون شأنا دينيا حيث يتم تحقيق الهوية الدينية بمساحاتها المختلفة ، فالأذان وفقا للمنطق اليهودي الذي سردنا بعضا من حيثياته في العلاقة مع اصحاب البلاد حائل ثقافي وحضاري وطبعا ديني لتأكيد يهودية الحيز بتموضعاته الثقافية والحضارية والز-مكانية، ولذلك فعملية القانون كما خرجت من حزب يسرائيل بيتنو اليميني العلماني كان في لحظة طرحه الاول عام 2011 مناكفا للحالة الدينية في البلاد بحسب أنه حزب علماني يناكف الحالة الدينية في البلاد، ثم جاء حزب البيت اليهودي ليمنحها مسحة دينية متوارية بقيم الحرية والحقوق الفردية والحق بالراحة واخيرا حزب الليكود كحاصد اخير ي انتهازي ووصولي يتمثل بعدد الكراسي في الكنيست ويتماهي دينيا وسياسيا مع شركائه، حيث تمت موافقات سياسية في تكييف القانون والتشديد في بعض بنوده لتحقيق تنفيذه عبر ادوات سلطوية كما يتضح من التفاهمات الاخيرة، فقد قامت اللجنة الحكومية التي كلفت بمناقشة قانون “إسكات الآذان” والتي ضمت كلًا من وزير الأمن الداخلي غلعاد إردان، وما يسمى ووزير “شؤون القدس” زئيف إلكين وكلاهما من الليكود بالتوصل إلى عدة تفاهمات داخل الائتلاف الحاكم وذلك بإدخال تعديلات على مشروع القانون شملت صلاحيات خاصة بالشرطة الإسرائيلية تقضي باقتحام ومداهمة المساجد ومصادرة مكبرات الصوت التي تخالف القانون المعدل ووفقا لهذه التعديلات سيتم تغريم كل من يخالف القانون برفع الآذان في مكبرات الصوت بغرامة قدرها 10 آلاف شيكل.
إسكات الاذان، تأميم الدين ومســألة الهوية ..
منذ ان حظرت المؤسسة الاسرائيلية الحركة الاسلامية نحن نشهد مزيد من التدخل “الاسرائيلي ” في الشأن الديني الخاص بالمسلمين خاصة في المساجد حيث تخضع لرقابة مباشرة سواء على خطب الجمعة وحضور مراقبين من طرفها للخطب أو من خلال توجيهات تصدر عن الدائرة الدينية بين الفينة والاخرى، وفي هذا السياق يأتي التدخل السافر في قضية رفع الاذان ليتم من خلال هذه التوليفة الشروع في تأميم الدين في الداخل الفلسطيني وهي قضية تحتاج الى رصد ومتابعة دقيقة على كافة المستويات الاسرائيلية اذ تستلهم هذه الحكومة تجربة الدول العربية وخاصة مصر في هذا الشأن، فنحن امام زحف سلطوي بطيء ومنظم يعمل على اغلاق تلكم الدائرة التي بدأت عام 1948 بهدم اكثر من الف مئتي مسجد لتهويد المكان وتغييب حضوره الاسلامي، وفي هذا القانون وما سيتم من ممارسات سلطوية منبثقة عنه الى جانب قوانين عديدة تستهدف القدس والاقصى والمقدسات ستعمل السلطات على ضبط الايقاع الديني في الداخل الفلسطيني عبر سياسات العصا والجزرة…
لعل ابرز معالم هذا القانون وما يرفقه من تشريعات هو البعد “الغائب” غير المعلن المتمثل بصراع الهويات فالأذان يمنح المكان بعدا مقدسا بتأكيده الابعاد التوحيدية والتعبدية التي يصدح بها، وبهذا الاذان المعلن العالي يكون ثمة اندماج بين الزمان والمكان لتحقيق هويته التوحيدية الاسلامية العربية، وهو ما سعى الاحتلال الاسرائيلي لطمسه منذ نكبة عام 1948واحتلاله لما تبقى من فلسطين عام 1967 وحربه غير المعلنة على الشعب الفلسطيني والقدس والمسجد الاقصى هذه الايام، وبقيام المؤسسة الاسرائيلية بإسكات الاذان او ضبطه وفقا لايقاعها المقرر قانونيا فهي تعمل على قطع البعد الروحاني المتجلي في النداء، فخفض صوت الاذان ليست عملية تكتيكية جاءت تراعي حياة الناس كما يزعم الساسة بل يصبح هو قطع للوصل الهوياتي بين الاذان والمستمع العربي الذي يرى ان المكان عربيا اسلاميا موحدا لله غير مشرك تتوحد في لحظاته المقدسة-أي لحظات الاذان- ثلاثية الانسان الفلسطيني المستمع لصوت الاذان، والمكان المبارك والزمان الذي يتبارك بلحظات النداء الخالد، وهذا كله يريد الاسرائيلي اليميني الصهيوني-الديني إلغائه …. هذا الى جانب ان القانون كشف عن حجم الازمة التي يعاني منها اليمين الاسرائيلي الذي فاقت فاشيته دولا سيئة الصيت فهو يتحسب من المستقبل ويعتقد انه بسنه القوانين التي تستهدف الانسان العربي الفلسطيني عموما والمسلم بالذات يستثمر اللحظة التاريخية التي بها يحسم هذا المستقبل بعدئذ توافق مع محيطه العربي الفاسد أي مع تلكم الانظمة التي ناصبت شعوبها العداء وناصبت الدين والتدين العداء وطاردته معتقدة انها ملكت ناصية توقيف مسار الزمن لصالحهم وكذلك تفعل المؤسسة الاسرائيلية متسلحة بأيديولوجيا سياسية ودينية تمس الكرامة السياسية والدينية للفلسطيني، وبذلك يحقق حزب اسرائيل بيتنا نوعا من النشوة السياسية تتمثل بسلطة سياسية، تؤهله لحصد مزيد من الاصوات فيما يحقق البيت اليهودي نشوة دينية تتمثل بسلطة دينية. ثم إنَّ هذه القضية تشكل منذ اثارتها والى هذه اللحظات بما تغشاها من تداخلات بين الديني والسياسي زحفا سلطويا لتأميم الدين “الاسلامي” في سياق اسرائيلي يكون بداية لتحديد معالم الدين الذي تريده اسرائيل للمسلمين في الداخل الفلسطيني وهو ما يتساوق مع الحملة العالمية على ما يسمى الارهاب وخلق حالة جديدة من التدين يتداخل فيها البعد ما بعد الحداثي مع الطروحات الليبرالية وقد بدأنا نشهد ذلك في دول كالسعودية ومصر والبحرين والامارات والشيشان فلماذا لا تكون اسرائيل من ضمن هذه الجوقة وهي التي تملك جيشا من المستشرقين والاكاديميين وقوة وسلطة ونظاما ” ديموقراطيا ” يمكن من خلاله هندسة المسلم الاسرائيلي الجديد؟.
إسكات الأذان مس بالمواطنة المشوهة.
اذا كان بن غوريون قد فرض نظام الحكم العسكري وضبط معالم العلاقة مع الفلسطينيين بتخوينهم وجعلهم الخطر الأمني، فأن نتنياهو يعيد الكرة من خلال منظومة من الإجراءات سواء من خلال تثوير الحالة الشعبوية واسترضائها عبر تحريض فاشي غير اخلاقي على الفلسطينيين او من خلال الاستجابة لمطالب ائتلافه الفاشي بملاحقة الاجسام والمجموعات الرافضة للهيمنة الاسرائيلية بل ومن خلال القوانين المختلفة: قانون الجمعيات، قانون النكبة، قانون هدم البيوت… وبذلك يتم انتهاك ما تبقى من حرمات للمواطنة كانت في الاصل منقوصة القيمة.. وهو في حقيقته اعادة لترتيب العلاقة مع الداخل الفلسطيني وهي مسألة بدأت عمليا بحظر الحركة الاسلامية وسيكون من ضمن خصائصها اسكات صوت الاذان والالتزام بمعايير وضعتها هذه الحكومة تهدف من وراء ذلك إعادة ترسيم الحدود بين الاقلية العربية الفلسطينية والمجتمع والدولة الاسرائيليين وفي هذا يقول بوضوح دكتور شاؤول بيطال في ورقته مباط-وجهة نظر رقم 591 الصادرة عن مركز بيغن-سادات في 18-9-2017 ” إخراج الحركة الاسلامية عن القانون لم توقف نشاط واعمالها حيث لا تزال تعمل في القدس ومنطقة ام الفحم .. الاجراءات التي اتخذت ضد التنظيم قلصت كثيرا من نشاطات تنظيمات اسلامية من اصحاب الايديولوجيا الاخوانية المؤيدين لحركة حماس لكنَّ هذه الاجراءات لم تصب القواعد الممتدة التي لا يزال يحظى بها الشيخ رائد صلاح.. إن محاكمة الشيخ رائد صلاح بسبب تصريحاته يؤكد الموقف الثابت للحكومة الاسرائيلية – أي بتأكيد حظر الحركة -، ويبعث برسالة الى المجتمع العربي في اسرائيل بشأن ما هو مسموح به وما هو ممنوع في العلاقات مع المجتمع الإسرائيلي والدولة”.
التـــحدي القادم …
انَّ طرح مشروع قانون منع الأذان مجددا في هذا التوقيت بالذات في ظل الملاحقات القضائية لنتنياهو وبعض من اقطاب حكومته بتهم الفساد هو حالة من حالات الشعبوية وذلك من خلال تأجيج الكراهية ونشر العداء للعرب بواسطة إثارة مجددة لموضوع الاذان يتملق به قواعده الانتخابية ويصرفها عن مظاهر الفساد التي ضربت اقطاب حكومته.
تفخر المؤسسة الاسرائيلية بعلاقاتها مع محيطها العربي السني لذلك هي لا تهتم بردود الفعل لتلكم الدول على قانون الاذان وكل القوانين التي تستهدف الانسان الفلسطيني ودينه وحضارته لأنها تعرف مواقفها مسبقا لكنَّ الذي يهمها هو ما سيقوله الشارع الفلسطيني، فهي مدركة تماما الى ان ممارساتها القهرية والهيمنة المتجلية في هذا القانون وغيره كثير تُقَرِبُ من ساعات الحسم والصدام وهي تراهن على قوتها [ الذاتية ] ومن يقف معها من الدول العربية التي ربطت مصيرها بقوى الاستكبار العالمي و الدول الغربية التي تشاطرها الحرب على الاسلام تحسبا من عودته حاكما، فالمؤسسة الاسرائيلية تعتقد ان الشارع الفلسطيني لا يزال يتذكر احداث هبة القدس والاقصى وسياسات القتل في الضفة والقدس وتراهن على انها نجحت في هندسة انسان فلسطيني عبر محركات مختلفة وقد ادخلت فيه الخوف والروع الشديدين دفعته للتفكير مطولا في واقعه المخصوف -لكنه مقبول- خاصة في ظل الحالة الاقليمية الراهنة وفي ظل مساعيه للحفاظ على فتات تَحَصَلَ عليه يرى ضرورة الحفاظ عليه، لكنَّ المسَّ بالمقدسات والمسلمات لا تمر في حياة الامم والشعوب الحية مرَّ الكرام. لذلك ثمة العديد من التحديات التي تنتظر الفلسطيني في الداخل تتعلق بالعديد من القوانين والاجراءات السلطوية ستدفع بالقطع للوقوف امامها وخلق المعادلات الكفيلة بمواجهتها وهذا كله يحتاج الى صمود وثبات وفهم عميق لمجرى التحولات الجارية في المجتمع الاسرائيلي عموما ومكوناته السياسية خصوصا تلكم اليمينية المتحكمة بالقرار والساعية لتحقيق يهودية الدولة بناء على رؤى خلاصية.