أنقرة وواشنطن والملف السوري: إلى أين؟
د. سعيد الحاج
خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى تركيا قبل أيام، أعلن الطرفان عن تشكيل “آلية ثنائية” بخصوص سوريا، ما أثار عدة تقييمات حول الأمر بخصوص تجاوز الطرفين حالة التوتر بينهما، لا سيما وأن وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو؛ كان قد استبق زيارة تيلرسون بالقول إنها إما ستردم فجوة الثقة بين الطرفين وتحسن العلاقات أو ستقطعها بالكلية.
لا بد من الإشارة ابتداءً إلى أن العلاقات التركية -الأمريكية لم تصل يوماً إلى هذه الدرجة من التأزم، إلا حين التدخل التركي العسكري في قبرص في 1974، وهي بالضرورة أكبر أزمة بين الطرفين منذ تسلم العدالة والتنمية الحكم في تركيا في 2002. وقد وصل الأمر بأنقرة لاتهام واشنطن علناً بدعم منظمات إرهابية تضر بأمنها القومي، ووصلت الأزمة في إحدى جزئياتها لتجميد البلدين التأشيرات لمواطني الطرف الآخر، قبل أن يتم التخلي عن هذا الإجراء جزئياً.
منع إنشاء كيان سياسي لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وأذرعه العسكرية في الشمال السوري هو الأولوية الأولى لتركيا في سوريا مؤخراً، تحديداً منذ 2015، وهو الناظم للسياسة الخارجية التركية في المجمل، وهو أيضاً ملف التأزيم الأكبر والأخطر بين أنقرة وواشنطن. فقد اعتمدت الولايات المتحدة عليه وعلى أذرعه العسكرية (أولاً وحدات حماية الشعب (YPG) ثم لاحقاً قوات سوريا الديمقراطية (SDF) التي تشكل الأخيرة غالبيتها العظمى)، كحليف ميداني لمواجهة داعش منذ معركة عين العرب (كوباني) نهايات 2014، بينما رأته تركيا خطراً على أمنها القومي، بحيث يمكن أن تشكل الدويلة التي يريد تأسيسها حاجزاً جغرافياً واستراتيجياً لها عن سوريا والعالم العربي، ومنطلقاً لعمليات حزب العمال الكردستاني (PKK) عليها، كما حصل سابقاً من شمال العراق، فضلاً عن انعكاسات ذلك السلبية على الملف الكردي داخل تركيا.
يسيطر حزب الاتحاد بتمظهراته المختلفة؛ على ثلاث مناطق جغرافية/ عسكرية أساسية في الشمال السوري (عفرين ومنبج ومناطق شاسعة شرق نهر الفرات)، وتعلن أنقرة أنها ستواجهه في كل هذه المناطق وتنهي سيطرته عليها.
وإذا كان في كل عملية ثمة حسابات سياسية وأخرى عسكرية وقرار بالبدء وآخر بالإنهاء، فإن عفرين من هذه الزاوية هي الأسهل على أنقرة كبداية وقرار سياسي، فهي منطقة معزولة نوعاً ما وتحاصرها تركيا من عدة جهات، ولا وجود عسكرياً للقوات الأمريكية فيها، ولا تحتاج (ولم تحتج) أنقرة للتنسيق بخصوصها سوى مع موسكو. ولذلك استطاعت أنقرة أن تطلق العملية وأن تستمر بها رغم التحذيرات الأمريكية والاعتراضات الفرنسية والتحفظات الإيرانية، مثلاً.
اليوم، ثمة تسريبات عن اتفاق أبرم بين وحدات الحماية والنظام السوري لدخول قوات محسوبة على الأخير إلى عفرين، وهو تطور مهم ستتضح تفاصيله ويتبلور الرد التركي إزاءه قريباً. فإذا ما كان تدخل النظام يهدف إلى السيطرة على عفرين وإنهاء سيطرة الوحدات ونزع فتيل الأزمة، فقد يكون ذلك حلاً يرضي الحد الأدنى من مطالب مختلف الأطراف، بما فيها تركيا التي يتمحور هدفها الأول والأهم حول إنهاء سيطرة الوحدات على المنطقة. أما إن كان الدخول سيسمح باستمرار وحدات الحماية بالتواجد وامتلاك السلاح والسيطرة (ولو تشاطراً مع النظام)، فإن ذلك من شأنه أن يعقّد عملية غصن الزيتون أكثر، ذلك أن أنقرة ستستمر بها، لكن هذه المرة مع وجود قوات محسوبة على النظام هناك، ما يعني تغير الحسابات والموازين والأثمان وربما المواقف، خصوصاً موسكو وطهران.
سيحتاج الأمر إلى بعض الوقت لتتضح الصورة في عفرين، لكنها -مرة أخرى -ليست ميدان النزاع الأهم والأصعب بين أنقرة وواشنطن، والمتغيرات المحتملة على تلك الجبهة -كما هو واضح -ليست متعلقة بقرارات أمريكية في المقام الأول، وإن تزامنت مع زيارة تيلرسون لتركيا والمنطقة. يبقى هناك، ما هم أهم وأصعب، أي منبج وشرق الفرات.
تبدو منبج الوجه الآخر لعفرين: قرار سياسي أصعب وعملية عسكرية أسهل؛ إن أطلقت. ذلك أن تواجد القوات الأمريكية في منبج يعقد الحسابات التركية إزاءها، حيث كانت قد دخلتها لحماية قوات سوريا الديمقراطية من تركيا خلال عملية درع الفرات. ذلك يعني أن قراراً تركيا يتعلق بمنبج ينبغي أن يضع نصب الأعين ضرورة التفاهم مع واشنطن أو مواجهتها، ولو سياسياً بالحد الأدنى. وهنا تحديداً، من وجهة نظري، تقع “الآلية المشتركة” التي أعلنها الطرفان.
لا ينبغي النظر لهذا الاتفاق على أنه “آلية حل”، وإنما “آلية حوار” حول الملفات العالقة بين البلدين، وأعتقد أن منبج تقع في القلب منها. فالتصريحات الرسمية لا توحي بأي تراجع أو مراجعات في الموقف الأمريكي من سوريا عموماً، ودعم الفصائل الكردية على وجه التحديد، بل إن تيلرسون استبق زيارة أنقرة -خلال زيارته الكويت ولبنان -بنفي نية بلاده سحب الأسلحة المقدمة لقوات سوريا الديمقراطية باعتبارها “لا تشمل أسلحة ثقيلة”، وهو تراجع رابع عن التعهدات الأمريكية المعطاة سابقاً لأنقرة. فقد سبق لواشنطن أن تعهدت لأنقرة بخروج/ إخراج قوات سوريا الديمقراطية من منبج، واقتصار التعاون معها على مواجهة داعش، والمكوث المؤقت للقوات الأمريكية (وتعاونها مع القوات) في سوريا، وقد تنصلت واشنطن فعلياً من كل هذه التعهدات.
آلية الحوار بين الطرفين نزعت فتيل الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة ومنعت وصول العلاقات بينهما إلى القطيعة، إلا أنها لم تقدم حتى الآن أي حلول عملية للأزمة أو أي تطمينات لأنقرة بخصوص تحفظاتها ومتطلبات أمنها، وستكون منبج الملف الأول والمحك الأبرز لهذه الآلية.
تريد أنقرة خروج قوات سوريا الديمقراطية من منبج، وقد عرضت على واشنطن دخول قوات مشتركة من البلدين إليها، بينما لا تبدو الأخيرة متحمسة لدخول القوات التركية إليها. في الأصل، تقع منبج غرب الفرات -شأنها شأن عفرين -أي خارج المناطق التي تشملها الاستراتيجية الأمريكية في سوريا، ولذلك لن يكون إخراج قوات سوريا الديمقراطية منها تنازلاً أمريكياً بارزاً أو خرقاً للاستراتيجية الأمريكية المعلنة، ولكن ربما تبقيها واشنطن ورقة ضغط على أنقرة ومساومة معها. سيتبدى مدى صوابية هذه الرؤية قريباً، وسيتضح ما الذي تخفيه جعبة واشنطن لأنقرة، علماً بأن خروج/ إخراج قوات سوريا الديمقراطية من منبج (وإن لم تدخلها القوات التركية) سيرضي الحد الأدنى من مطالب أنقرة، وسيعتبر انتصاراً لها باعتبار أن ضغوطها (ومن ضمنها غصن الزيتون) هي ما أدت لهذا التطور، كما ذكرنا آنفاً حول عفرين.
أما المنطقة الرئيسة في الخلاف الأمريكي -التركي فهي مناطق شرق الفرات، التي تشملها الاستراتيجية الأمريكية للبقاء طويل الأمد في سوريا، والتي تتضمن البنية التحتية الضرورية لإنشاء مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي المتمثل بالدويلة/ الإقليم. يملك الحزب هناك أراض واسعة تقدر بحوالي ثلث مساحة سوريا، وعشرات الآلاف من القوات المسلحة والمدربة أمريكياً، ومصادر الطاقة والثروة المائية، وإدارة ذاتية مستمرة منذ سنوات، وحماية أمريكية مباشرة من خلال قواعدها المنتشرة هناك.
بهذا المعنى، فإن خطة تركيا لإفشال مشروع المنظمات الكردية في سوريا يتركز أساساً في شرق الفرات، حيث تتواجد القوات الأمريكية وتنوي البقاء طويلاً بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية. ولئن كانت مواجهة عسكرية مباشرة بين أنقرة وواشنطن غير مرجحة ولا منطقية ولا يريدها حلف الناتو الذي يضم الطرفين بين أعضائه، إلا أن المواجهة قائمة، وستبقى وتتفاقم على الأقل سياسياً ودبلوماسياً وعلى صعيد العلاقات والاصطفافات في سوريا والمنطقة.
ذلك أن إصرار واشنطن على استراتيجيتها المبنية على التعاون الوثيق مع قوات سوريا الديمقراطية، دون أي إشارات على إمكانية التراجع أو التعديل، يعني أن مصالحها ستظل في تعارض كبير مع مصالح تركيا ومحددات أمنها القومي في سوريا. سيعني ذلك اضطرار تركيا لمزيد من التنسيق والتفاهم والتعاون مع كل من روسيا وإيران (وربما النظام بدرجة أقل) على المدى البعيد لمواجهة المشروع الأمريكي في سوريا، لعدم قدرتها على خوض ذلك بمفردها، وهو ما يعني إرهاصات تشكل محور ما من هذه الدول الثلاث في مقابل الولايات المتحدة، دون الجزم بإمكانية تحول ذلك إلى محور حقيقي، لأن ذلك دونه عقبات ضخمة من الصعب تخطيها في المرحلة الحالية، وربما مستقبلاً.