إشراقات من وحي العيد
ليلى غليون
إنّها بضع أيام تلك التي تفصلنا عن يوم العيد، بعد أن تذوقنا ولا زلنا لذة الطاعة وتسربلنا ولا زلنا بوشاح الرحمات والبركات في هذه الأيام العظيمة من أيام الله، في أيام وليال عشر أقسم الرحمن بها لعظيم فضلها وعميم خيرها: (والفجر وليال عشر).
بضع أيام وسيتنفس الفجر بأنفاس دافئة حنونة، تخترق نوافذ القلوب فتثير فيها هزة خفيفة من الفرح، فتتبسم رغم الآلام ورغم الدموع، ورغم سواد المرحلة، وسينبلج الصبح مهللًا مكبرًا، والملائكة تصافح الناس في الطرقات سعيدة مستبشرة، فاليوم عيد.
بضع أيام وخيوط الفجر الندي ستشق الأفاق، وتباشير الخيرات وبشريات الأمل تطل مع إطلالة العيد لتداعب فرحته كل الشفاه وتقطف منها رياحين الابتسامات التي أبت إلا أن تشرق خيوطها من بين غيوم القهر المتلبدة.
إنه العيد، مساحة بهجة وهدوء نفس نستروح تحت أفيائها ونتنفس براحة وطمأنينة بعد أن كادت تخنقنا الدنيا بمشاغلها ومتاعبها وهمومها، لننسج من خيوطها المعقدة عباءة فرح بعد أن صنعنا البسمة من وحي العيد.
إنه العيد هدية الرحمن المنعم المتفضل، وأي هدية! ما أعظم المانح وما أكرم المعطي، وهل تستقبل الهدايا إلا بالابتسامة والأمل، كيف لا وهي هدية الوهاب ذي الجلال والإكرام، بنفحاتها النورانية ونسماتها الإيمانية، وبسُحب الرحمة في طياتها التي تحمل كل معاني الحب والسلام والعطاء والأخوة والإيثار.
إنه العيد يطرق الأبواب، فشرِّعوا له أبواب القلوب ولا تخالفوا وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم في وجوب الفرح وإظهاره أيام العيد، نعم هناك آلام غائرة، جراح نازفة، أحزان عميقة، وجوه شاحبة، أحلام مسروقة، أماني مشنوقة، وهناك وهناك… وما أكثر ما هناك.
ولكن يبقى الأمل كالجبل الصامد لا تهزه رياح، ويبقى اليقين بغد مشرق تلوح تباشيره في الأفق القريب، ويبقى التفاؤل بتحقيق وعد الله، يشحن النفوس بالعزم والهمة الذي يساعد ويساهم في تجاوز هذه المرحلة الصعبة وهذه المحطة القاسية من المحطات التي تمرّ بها مجتمعاتنا وأمتنا، إنه تفاؤل إيجابي مبني على حسن الثقة بالله والإيمان بتحقيق وعده، فلنتفاءل ونبتسم، إنه العيد، ولنتفاءل ولتداعب الفرحة قلوبنا، فالمستقبل حتمًا للإسلام ولهذا الدين العظيم (ويومئذ يفرح المؤمنون)، فليس العيد إلا أمل وتفاؤل وحب، فافتحوا أبوابكم على مصاريعها واقطفوا هذه الزهرات الجميلة الخلابة واستقبلوا كل الوافدين إليكم بعطرها وعبيرها وأنعشوا بينكم روح الأخوة والمحبة واستنهضوا روح الإيثار والتسامح والتغافر وكل القيم الرائعة التي يكاد ظلام المرحلة يلفها بوشاحه الأسود، وألقوا السلام وتلقّوه، فليس أروع ولا أجمل من سلام نتبادله في هذا الوقت العصيب، وليس أروع من تغافر وتسامح يحطم جدران الجفاء والنفور المنتصبة بين القلوب، وليس أجمل من أيادٍ تتصافح، ومشاعر من نهر المحبة تتدفق، وأرواح تلتقي، ونفوس تتصافى وتذيب بدفء مشاعرها جليد الكره والبغضاء، وألسن انطلقت بشعار واحد تنطق بالتهاني والمعايدات والتبريكات مرددة: كل عام وأنتم بخير.
أنه العيد، يوم الأطفال، بل يوم فرحتهم الكبرى التي ينتظرونها بفارغ الصبر، حيث نسائم السعادة تداعب رموشهم وترسم على وجوههم البريئة صورة جميلة من الفرح الصادق تعكس ما في قلوبهم الصغيرة التي لا تعرف التلوّن ولا النفاق ولا المداهنة، عرفوا أن العيد بهجة وسرور، فطاروا على أجنحته بالثوب الجديد، عرفوا أن العيد في العيديات، فطافوا على الأهل والأقارب والمعارف يجمعون ما تيسر لهم من عيديات، إنها فرحة الأطفال، ولفرحة الأطفال رونق ومذاق خاص، فأسعدوا الأطفال واشتروا سعادتهم بالغالي والنفيس، وزّعوا الحلوى عليهم والنقود، وعلّموهم معنى البذل والعطاء، واجعلوهم يقدمون الصدقات بأنفسهم، وعلّموهم أن العطف على المسكين والمحتاج خلق كريم، ومن واجبات المسلم تجاه أخيه، أثيروا في نفوسهم الشعور بالغير، فالعيد أعظم مناسبة للشعور بالغير.
أنه العيد، فأخلصوا النية لله تعالى واطرقوا أبواب أرحامكم بمعايدة خالصة لوجه الله، وإياكم والتأفف والامتعاض باعتبار هذه المعايدة (ضريبة العيد) كما يعتبرها البعض أو (فاتورة العيد) كما يسميها البعض الآخر، فلا حاجة، بل لا ترهقوا أنفسكم بالعيديات المالية الباهظة، فالرحم تسعدها صلتكم وليس ما في جيوبكم، خاصة وصلة الأرحام في هذا الزمان أصبحت كالعملة النادرة مع غزو التواصل الافتراضي الالكتروني الذي غيّب روح العلاقات الحقيقية ّودفء المشاعر الحانية التي استبدلت بمشاعر الكترونية فاقدة لكل معنى، فالعيد يوم يتحقق فيه الإخاء بمعناه العملي وتظهر فيه فضيلة الإخلاص ويهدي الناس بعضهم بعضًا هدايا القلوب المخلصة، فتكفي بسمة ود وحرارة مصافحة وزيارة مظللة بسحابة الأخوة، وأمنية خالصة نبعثها من “كل عام وأنتم بخير” فإن كانت صلة الأرحام في غير أيام العيد واجبة، فهي في العيد أوجب لما لها الأثر الفعال في تقريب القلوب وريها بماء الرحمة والمودة وإدخال السرور إليها.
فكم من الأرحام من يأتي العيد تلو العيد وليس حصادها غير البعد والتجافي، فلا يد دافئة مواسية، ولا صوت حنون يبدد سكون الوحشة والوحدة، ولا زيارة تخمد نار الشوق وتجدد عهد الإخاء والمحبة.
فبعد أيام بإذن الله ستشرق الشمس ضاحكة مستبشرة بيوم جديد هو يوم العيد، فاجمعوا من حدائق الرحمات والبهجات أجمل زهرات، وأدخلوها إلى بيوت أرحامكم وأصدقائكم وجيرانكم ومعارفكم، فلا تنسوا بيوتكم وأطفالكم وأزواجكم ولا تبخسوهم حقهم فلهم من الفرحة نصيب، زيّنوا بيوتكم وجمّلوها بالمودة والأمان، فالعيد فرح نتهادى به ونهديه، وبسمات نزيّنها بالصدق، ودفء عاطفة يتجدد، واجتماع وتراحم وتعاون على البر والتقوى.
إنها إشراقات من وحي العيد نسأل الله تعالى أن يبدل حالنا إلى خير حال، ويجعل مجتمعاتنا آمنة مطمئنة، وكل عام وأنتم بخير.