أخبار رئيسيةالضفة وغزةتقارير ومقابلاتومضات

تقرير: فارس حشاش.. مصاب بإعاقة عقلية أعدمه الاحتلال عندما “ضلّ الطريق”

أطلَّ عبد المنعم حشاش من نافذة منزله لحظة سماعه أصوات مركبات عسكرية لقوات الاحتلال الإسرائيلي خارج منزله أثناء اقتحامهم مخيم بلاطة شرق مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، الثلاثاء الماضي، تُلاحقه مخاوفه على ابنه فارس (19 عامًا) المصاب بإعاقة عقلية.

تجولت عيناه بقلق بين وجوه أبناء الجيران المتجمّعين في الخارج حتى عثر على ابنه “فارس” فاطمأن قلبه ونادى عليه يطلب منه العودة للمنزل، فأغلق الأبُ الشرفة معتقدًا أنّ الأمور انتهت “وارتاح باله”.

بدلًا من عودة ابنه من الطريق التي لا يوجد فيها جيش الاحتلال، أضل الطريق وسلك طريقًا يقف بنهايته الجنود الذين كانوا يطلقون النار على الشبان لحظة الاقتحام.

 

الحائط لم يحمِه

عندما رأى فارس جنود الاحتلال، احتمى الشاب المرتعد وراء حائط، وكان بجواره مجموعة من الشباب احتموا خلف الحائط كذلك، وكان بين الفينة والأخرى يطلُّ للتأكد أنهم ابتعدوا حتى يتسنّى له العودة إلى منزله، وبينما حاول إلقاء نظرة خاطفة على مكان الجنود، داهمته رصاصة قناص إسرائيلي فأسقطته مضرجًا بدمائه، وتعالت صراخات الشباب، ونداء الاستغاثة، وهرعت طواقم الإسعاف للمكان.

“سمعتُ صوت رصاص وصراخًا، نظرتُ فوجدت الشبان يسحبون شابًّا مصابًا تَبيّن أنه ابني (فارس) عندما سألت عن اسمه، فسبقتني والدته إليه ورافقته في سيارة الإسعاف للمشفى، وكانت الإصابة بمنطقة الوريد الفخذي” يروي والده التفاصيل.

بالعادة يخاف “فارس” من كل شيءٍ، من الصراخ، والشجارات، وأصوات الرصاص، وكل من يحمل بندقية، فهو لا يستطيع التمييز حتى بين الفلسطيني الذي يحمل السلاح أو جيش الاحتلال.

“محاصرًا بين خوف يجتاح قلبه وجنود الاحتلال الذين يغلقون الطريق ويتواجدون على بعد مسافة يُقدّرها والده بنحو 70 مترًا من مكان اختباء نجله وراء الحائط، عاش الشاب الذي يعاني إعاقة عقلية لحظاته الأخيرة”.

لم يتأخر والده بالوصول للمشفى، كان الأطباء يتجمعون حوله في قسم استقبال “الطوارئ” يحاولون وقف نزيف الدم الحاد ومده بالأكسجين الاصطناعي، على مدار نصف ساعة عاش والداه لحظات عصيبة بانتظار طمأنة الأطباء عن مصير ابنهما، حتى تبرد مخاوفهما وارتجافة قلبيهما.

تلك اللحظات القاسية تحضر حديثه الآن، بكلمات يسكنها وجع الفقد: “نقل إلى غرفة العناية المكثفة، كنت أنظر من خلال نافذة الباب الزجاجية، أراقب عملية إسعافه، فلم أقوَ على تحمُّل رؤية ابني بهذه الحالة، فذهبت للجلوس على الكرسي مع مواصلة التضرع إلى المولى بشفائه”.

 

آخر توقعات الأب

بعد لحظاتٍ ودقائق من الترقب والانتظار، خرج الطبيب من غرفة العمليات وهو يخلع قفازاته، سكنت أصوات الأجهزة الطبية، اقترب من والده بملامح شاحبة تنطقُ بالخبر أتبعها بعبارات مواساة: “فارس.. ربنا يرحمه، ربنا يصبركم”.

ضجّ المكان بصيحات التكبير، كان الوالد عبد المنعم حشاش يُحدّق بالمتجمهرين وهو لا يصدق ما يرى ويسمع، فآخر ما كان “يتوقعه أن يستشهد ابنه ويكون هدفًا في يوم من الأيام لقوات جيش الاحتلال”.

بصوت تسكنه حسرة الفقد، يتساءل الأب المكلوم “لماذا قتلوه؟!، ماذا فعل لهم؟، ابني عندما يراهم يتجنّبهم، حتى إن سمع صراخًا يغلق أذنيه بأصابعه، ويسلك طريقًا بعيدًا”.

يعرف الناس بالحارة -كما يقرّ والده- وضع “فارس” وحالته الصحية “الجميع يتعاطفون معه ويتفهّمون حالته، هو حبيب الجميع بالحي، يرجعونه إلى البيت إن ضلّ الطريق”.

أحبَّ “فارس” ركوب السيارات ومشاهدة مباريات كرة القدم، لا يتحدث كثيرًا كونه لديه صعوبة في النطق، لكن تكفي ابتسامة منه ليعبّر عن فرحته حتى يطمئنّ قلب والده، “عاش حياة صاخبة في لسان صامتٍ لم يستطِع التعبير عن كل ما يجول في قلبه، عن مصدر فرحه وحزنه أحيانًا”.

يبتسم صوت والده عندما استحضر موقفًا مضحكًا: “بل من مدة جاءني وقال لي: بدي أتزوج”، فرحت لأنه بدأ يفكر بأشياء مستقبلية، ووعدته بأنني سأُحقّق رغبته التي حرمه منها جنود الاحتلال.

بدأت معاناة “فارس” مبكرًا، شخّص الأطباء إعاقته عندما كان رضيعًا بعمر ثلاثة أشهر، تأخّر أربع سنوات عن النطق وخمس سنوات أخرى عن المشي، كان خلالها يزحف على يديه، ولا يستطيع التعبير عما يريد لوالديه اللذَين عانيا كثيرًا في تربيته ورعايته فكان “لا يغيب لحظة واحدة عن عينَي والده” وفي اللحظة التي غاب عنه قتله جنود جيش الاحتلال.

يرفض والده تقديم دعوى قضائية ضد جنود الاحتلال الذين أعدموا نجله، لأنّ الاحتلال سيُبرّر أنّ الإعدام حدث بالخطأ كما فعل مع عشرات الشهداء من ذوي الإعاقة، وسيرفع قضيته “إلى قاضي السماء”.

تُغادر الكلمات المقهورة قلبه: “قضيتنا عند رب العالمين.. هذا احتلال لا يفرق بين إنسان معاق أو سليم، لا يُميّز بين كبير وصغير، أو رجل وامرأة، فيكفي أن تكون فلسطينيًّا ليستهدفك ويقتلك”.

 

المصدر: صحيفة فلسطين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى