السلطان والقفطان وسيوف العز

الشيخ كمال خطيب 

كثيرة هي النكبات والكوارث التي تقع على الشعوب وتصاب بها الأمم، منها ما هي من فعل الطبيعة التي تسير وفق قوانين ونواميس ربانية كالزلازل والفيضانات والجفاف وغيرها، ومنها ما هي من صنع الإنسان كالحروب وما ينتج عنها من احتلال شعب لأرض شعب آخر وارتكاب مجازر بحقه، وهو ما حصل مع شعبنا الفلسطيني في العام 1948 حين احتلت العصابات الصهيونية وطننا وشرّدت شعبنا وأوقعت فينا النكبة ما زالت فصولها مستمرة.

ولكن واحدة من النكبات والكوارث التي قد يصاب بها شعب أو أمة حين يتسلط عليها حكام ظالمون وطواغيت مستبدون يتعاملون مع شعوبهم كأنهم قطيع يعيشون في مزرعة هو الوطن يعتبره ذلك الطاغية ملكًا شخصيًا له، لكن الناس والشعب يظلّون على أمل أن يخرج من بينهم أصحاب كلمة حق لا يخشون في الله لومة لائم وهم العلماء، فينصحون ويذكّرون ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فيستجيب لهم الأمراء والزعماء حتى وإن دفع بعض هؤلاء العلماء الثمن استجابة لأمر الله وحرصًا على مصلحة شعوبهم، فإن جزاؤهم عند الله عظيم يصل إلى حد ما قال النبي ﷺ: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”.

وتعظم الكارثة والنكبة حين يغيب أولئك العلماء والناصحون إما خوفًا وإما أن يصبحوا من بطانة ذلك الحاكم الظالم فيزيّنون له فعل السوء، فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر وكل همهم أن يرضى عنهم ويلقي إليهم بفتات أمواله علفًا يُعلفون به، فيصمتون كما تصمت البهائم حين يُلقى إليها العلف فتتوقف عن الثغاء والخوار. قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه: “إذا رأيت العلماء على أبواب الملوك فقل بئس الملوك وبئس العلماء، وإذا رأيت الملوك على أبواب العلماء فقل نعم الملوك ونعم العلماء”. وقال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “إنما فسدت الرعية بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء، فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقلّ فساد الملوك خوفًا من إنكارهم”.

نعم حين يصمت ويجامل ويتغاضى ولا ينكر القاضي والعالم على الملك والزعيم فعلته، فإنه يستمر بفساده ويزيد، وإذا سمع من ينكر عليه أفعاله وظلمه فإنه وخوفًا من غضب الشعب والرعية سيتوقف عن ظلمه وفساده.

السلطان والمفتي وقرية النمل

جاء مسؤول قصر السلطان سليمان القانوني يخبره بأن جيوش النمل تتسلق جذوع الأشجار في حديقة قصر “طوب كابي”. احتار السلطان فيما يجب فعله، فأشار عليه أهل الخبرة أن يدهن جذوع الشجر بالجير لأن النمل ينفر من رائحته، بل ولعله يموت.

ولأن من عادة السلطان سليمان القانوني أنه كان يستشير العلماء في كل صغيرة وكبيرة، فإنه ذهب بنفسه إلى المفتي “أبي السعود” يطلب منه الفتوى فيما يصنع مع النمل الذي اجتاح حديقة القصر، لكن المفتي لم يكن في دار الإفتاء فكتب له السلطان رسالة هي بيت شعر قال فيه:

إذا دبّ نمل على الشجر      فهل في قتله ضرر؟

فلما رجع المفتي ووجد الرسالة أجاب بالقول:

إذا نصب ميزان العدل    أخذ النمل حقه بلا وجل

في إشارة إلى حرمة إبادة وحرق قرى ومستعمرات النمل. وهكذا فقد كان السلطان سليمان حريصًا على أن لا ينفّذ أمرًا إلا بفتوى. ولما توفي رحمه الله في معركة “زيكتور” وعادوا بجثمانه إلى إسطنبول، فقد وجدوا خلال التشييع أنه كان قد أوصى أهل بيته بوضع صندوق معه في قبره. احتار العلماء وهم لا يعلمون حقيقة ما في الصندوق فقرروا فتحه، فكانت دهشتهم أنهم وجدوا في الصندوق فتاويهم التي كانوا يفتون بها لما كان يأخذ رأيهم حتى يدافع بها عن نفسه يوم الحساب والسؤال يوم القيامة بين يدي الله رب العالمين.

بكى الشيخ أبو السعود وقال: لقد أنقذت نفسك يا سليمان فأي سماء تظلنا وأي أرض تقلنا إن كنا مخطئين في فتاوينا.

فإذا كان المفتي أبو السعود يبكي من خطأ في الفتوى فكيف لمن يفتون وهم يعلمون أنهم مخطئون ويصرّون على فتاويهم الخاطئة إرضاء لجلالة الملك أو فخامة الرئيس. وإذا كان أبو سعود مفتي السلطان سليمان القانوني من وصلت جيوشه إلى قلب أوروبا يخاف من فتوى قتل النمل، فكيف بمفتي السيسي “شوقي علّام” وهو يصادق ويوافق ويوقّع على إعدام علماء ودعاة وحفظة للقرآن كانت محاكم السيسي الظالمة قد قضت بإعدامهم حيث لا ذنب لهم سوى أنهم من جماعة الإخوان المسلمين وممن لا يقرّون للسيسي بشرعية الحكم الانقلابي.

لما كان القرار الظالم بإعدام الشهيد سيد قطب فقد جاء أحد شيوخ البلاط يقول للأستاذ سيد قطب: قل لا إله إلا الله، يريد أن يلقنه إياها قبل الإعدام. ابتسم الشهيد سيد قطب وقال للشيخ المسخ: قل لمن أرسلك، وهل أنا أعدم إلا من أجل لا إله إلا الله.

قال الشيخ أبو حامد الغزالي: “ما فسدت الرعية إلا بفساد الملوك، وما فسدت الملوك إلا بفساد العلماء”. وقال أديب العربية مصطفى صادق الرافعي: “لو نافق عالم الدين لصار كل منافق أشرف منه، فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود”.

السلطان والقفطان

خلال رحلة عودة السلطان العثماني سليم من مصر والشام إلى إسطنبول وكان أن أمطرت السماء خلال مسيرة الجيش فأصبحت الطريق موحلة، وكان برفقة السلطان سليم شيخه العلّامة الحنفي “كمال باشا زاده”، وهذا كان نهج السلاطين العثمانيين ومن قبلهم من الخلفاء المسلمين بأن يقرّبوا إليهم أهل العلم والصلاح ليكونوا هم بطانتهم وحاشيتهم في حلّهم وترحالهم.

وخلال السير في الأرض الموحلة، تعثر حصان العلّامة كمال باشا زاده، وبسبب تعثر الجواد تطاير الوحل وسقط وأصاب قفطان السلطان سليم (القفطان هو المعطف الذي يلبس فوق الثياب وكان يصنع للخلفاء بما يتلاءم مع مكانتهم). نظر العلّامة كمال باشا إلى السلطان سليم وقد تلطخ قفطانه بالوحل الكثير فأصابه الحرج وراح يعتذر للسلطان بينما بادر بعض الجنود والمساعدين المرافقين للسلطان لتنظيف القفطان من الوحل، وإذا بالسلطان يشير إليهم برفض تنظيف القفطان من الوحل.

وليس هذا وحسب وإنما أوصى مساعديه قائلًا: احتفظوا بقفطاني والوحل عليه فإذا متّ فضعوه على نعشي، فإن الوحل المتطاير من خف فرس العالم شرف ووسام كبير لنا. وهذا ما كان لما مات السلطان سليم رحمه الله.

وحينما جاء سفير دولة البندقية إلى إسطنبول لمقابلة السلطان سليم، أمر السلطان وزراءه أن يلبسوا ثيابهم الرسمية التي تليق بتمثيل الدولة العثمانية أمام سفير واحدة من أغلى الدول يومها وأشهرها تجارة في العالم إنها دوله البندقية.

أما هو فقد بقي لابسًا ثيابه العادية ورفض أن يلبس قفطانًا جديدًا، بينما وضع سيفه مسلولًا قريبًا من النافذة، وكان للسيف بسبب الشعاع الداخل من النافذة لمعان يبهر العيون.

دخل السفير وجرى الاجتماع وعندما انتهى سأل أحدهم السفير كيف كان وعن تقييمه للاجتماع وللسلطان، فقال السفير: أما الاجتماع فكان مثمرًا، وأما السلطان فإن السيف المسلّط بجانبه قد خطف بصري فلم أرَ غيره.

فلما حدّثوا السلطان سليم بما قاله سفير البندقية قال: “الحمد لله وأشار إلى سيفه وقال: طالما سيفنا برّاق وبتّار فإن بريقه سيجعل أعين الكفار لا ترى لباسنا ولا تنظر إلا إلى سيوفنا، ولكن إن أصبح سيفنا في يوم من الأيام غير برّاق ولا بتّار فإن الكفار سيروننا أذلاء وسيرفعون أعينهم من الأرض ويضعونها في عيون سلاطين آل عثمان”.

هكذا كان قفطان السلطان مصدر شرف ووسام عز لما تلطخ بالوحل من أقدام حصان العالم، وهكذا كان سيفه مصدر عزة ورسالة تأديب لمن يريد أن يتجرأ ويتطاول على المسلمين.

بينما نرى اليوم وللأسف، فليس أن سيوف الزعماء العرب والمسلمين لم تعد بتارة ولا برّاقة، وإنما أصبحت سيوفًا من خشب كما قال الشاعر يخاطب خالد بن الوليد سيف الله المسلول:

 وقبر خالد في حمص نلامسه    فيرجف القبر من زواره غضبا

يا ابن الوليد ألا سيف تؤجره     فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا

لقد أصبح حكامنا اليوم يقدّمون السيوف الذهبية المرصّعة بالماس لضيوفهم من أعداء الأمة ومن يسلبون مقدراتها ويغتصبون مقدساتها. فلقد رجع ترامب بسيف من ذهب بعد زيارته للسعودية، ورجع نتنياهو بسيف من ذهب كذلك بعد زيارته لعُمان. فلم يعد السيف علامة عزّ وإنما أصبح علامة خضوع وهوان، فلم يعد سيفًا مسلولًا وإنما سيفًا مشلولًا.

وإذا كان قفطان السلطان الملطخ بالوحل مصدر فخر ووسام شرف، فقد أصبحت البدلات العسكرية المرصّعة بالنياشين والأوسمة مصدر عار وهوان:

فجميعهم أبطال جعجعة     أرانب في النزال

وعلى صدورهم نياشين     القتال ولا قتال

هذا العقيد وذا اللواء      وذا الفريق المارشال

رتب وتيجان لمن     خاضوا المعارك في الخيال

يضعونها مرسومة     فوق الكتوف وباختيال

ولو أنهم يا ليت شعري   أنصفوا رسموا غزال

لو ينطق التاريخ        في أيامنا هذه لقال

 فليلبس القواد والضباط    فستانًا وشال

وليخلعوا هذه النجوم    ويدفنوها في الرمال

يا سعد بلغ خالدًا         أن القتال له رجال

لقد تحولت سيوف الزعماء إلى سيوف خشب وعار وشنار، وأسلحتهم فقط للاستعراضات، وذلك يوم طاردوا العلماء وأبعدوا عنهم الناصحين لا بل حاربوهم وزجّوا بهم في غياهب السجون.

ومثلما فعله حاكم دمشق الصالح إسماعيل بعد موت صلاح الدين، فإنه قد تحالف مع الصليبيين وأعطاهم حصونًا وقلاعًا وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح والطعام. وكان العز بن عبد السلام خطيب المسجد الأموي ومفتي دمشق، فأنكر عليه ذلك في خطبة قوية وأفتى بحرمة بيع السلاح والطعام للصليبيين، فغضب الصالح إسماعيل ومنعه من الفتوى والخطابة وألزمه بالبقاء في بيته إقامة جبرية.

وهذا ما يفعله اليوم رؤساء وملوك وأمراء مع العلماء الصادقين إذا قالوا كلمة الحق ونصحوهم، فإنهم يلاحَقون ويطارَدون ويُسجنون ويُفصلون من وظائفهم ويُمنعون من الخطابة، كما حصل مع خطيب المسجد الحرام الشيخ صالح آل طالب ومع مئات العلماء في بلاد الحرمين وفي دول عربية كثيرة، ليتصدر الخطابة منافقون من مشايخ السلطان وخدّام البلاط.

يا لها من دعوة

كانت وصية عثمان مؤسس الدولة العثمانية لابنه أورخان بنشر العدل وتقريب العلماء وإبعاد الظلمة وإعلاء علم الجهاد ومجاهدة الكفار وإعلاء كلمة الله تعالى ونشر الإسلام والسلام وإظهار محاسن الإسلام والإحسان إلى الرعية وإعانتهم والرحمة بالجند وإخلاص النية لله تعالى والعبرة بمصارع الظالمين وتذكر الموت دائمًا. وختم وصيته. وهكذا فعلوا من بعده برفع اليدين والدعاء لله على من ينحرف عن الصراط المستقيم أن يحرمه الله من شفاعة النبي محمد ﷺ يوم القيامة.

يا لها من دعوة تنهدّ لها الجبال بالحرمان من شفاعة الحبيب محمد ﷺ، عقوبة لمن خالف نهج محمد، لمن خان دين محمد ولم يعمل لرفع راية محمد ﷺ.

وإذا كانت هذه دعوتهم يومها، فإننا ندعوها اليوم على كل من حارب دين محمد، وحارب العاملين لدين محمد، ولمن طارد العلماء الذين يعملون لعودة الناس إلى دين محمد ﷺ أن يحرمهم الله من شفاعة محمد ﷺ.

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.