قضايا تبحث عن مسرح
الشيخ رائد صلاح
كان عنوان مقالتي في الأسبوع الماضي: (أم محمد برغال الأم المدرسة)، ولما أعدت قراءة هذه المقالة في صحيفة (المدينة) تمنيت لو قام فينا مؤلف مسرحي وكتب مسرحية عن هذه الأم الصابرة المحتسبة، ثمَّ لما استعرضت حياة كل أًمّهات أسرى الحرية في الداخل الفلسطيني، تمنيت الأمنية نفسها، وقلت في نفسي: إنَّ أقل تكريم يجب أن نقدّمه لكل واحدة من هؤلاء الأمهات أن يقوم أديب لامع فينا بتأليف مسرحية إنسانية نابضة بالمشاعر ومفعمة بصدق العواطف عن كل واحدة منهن!! وماذا عن أمهات شهداء يوم الأرض؟! وماذا عن أمهات شهداء هبّة القدس والأقصى؟! وماذا عن أمهات شهداء هبة الكرامة؟! وماذا عن أمهات سائر الشهداء في الداخل الفلسطيني؟! ألا يلزمنا الوفاء لهنّ أن ينهض قلم مسرحي منا صادق الأحاسيس بتأليف مسرحية حيّة الأحرف والكلمات والمعاني والدلالات عن كل واحدة منهن؟!
وإنَّ مما لا ينتطح عليه عنزان، أنَّ قضية أسرى الحرية وقضية الشهداء في الداخل الفلسطيني هما من أهم قضايانا مع لفت الانتباه أنهما ليستا كل قضايانا، فقبل أسابيع ومن ضمن سلسلة حلقات (جولة حنين في أرضنا المباركة) التي تبثها مشكورة قناة (موطني 48)، تناولت إحدى هذه الحلقات حياة المرحوم أبو مازن الذي ظلّ صامدًا في أرضه (مكورة) إحدى حارات بلدة إجزم المهجّرة حتى لقي الله تعالى، وقد تجاوز عمره تسعين عامًا، فمن لهذا الصامد الذي لم يتحدث عن حق العودة، بل عاش حق العودة وعضَّ عليه بنواجذه وداس بقدميه المثخنات بالجراح على كل المغريات البراقة التي عُرضت عليه كيما يهجر أرضه وبيته وبستانه ونبعة مائه في مكورة فرفض وظلّت كرامته أغلى عليه من كل شواقل الدنيا ودولاراتها ثمَّ مات على ذلك، فهل فينا من يحفظ الاعتبار لهذا العجوز المفعم بالفخار ويؤلف عنه مسرحية ترويها قوافل أجيالنا بلا توقف؟! ومن لمشاهد النكبة التي حلّت على أكثر من خمسمائة بلدة فلسطينية في الأربعينيات؟! من لها حتى يوثّقها بلغة مسرحية يصدق عليها قول من قال: إن المسرح ذو رسالة، ولن تكون هذه الرسالة قيّمة إلا إذا كانت مرآة تعكس حقيقة الواقع الممتد الذي نعيشه، قبل نكبة فلسطين وخلالها وما بعدها، بحلوه ومره، وآلامه وآماله، وهمومه وطموحاته، وإلا فهل يعقل أن يكون المسرح بمسرحياته وممثليه ورسالته في واد، ونحن وكل قضايا معاناتنا في واد آخر!! وماذا عن جائحة العنف التي اجتاحت مجتمعنا في الداخل الفلسطيني منذ بضع سنوات، فمن لها؟! ومن لأرامل هذه الجائحة؟! ومن لثكالاها وأيتامها وجرحاها ومشرديها؟ ألا يدفعنا الحياء من أنفسنا أن يقوم فينا قلم يؤلف عشرات المسرحيات عن هذه الجائحة التي اقتحمتنا وغزتنا حتى في مخادعنا بلغة مسرح تدعو إلى عدم اليأس وعدم الانكسار والاستسلام، والمطلوب هو العكس تمامًا، المطلوب هو إفشاء ثقافة السلام والتراحم فيما بيننا؟! وإفشاء ثقافة التسامح والتصالح والمعاملة الفاضلة كنهج يومي مستديم فيما بيننا، وإفشاء ثقافة كرامة المرأة والجيرة الصالحة وبرّ الوالدين وتوقير الكبار والرحمة بالصغار كمنهج حياة يجمع كل مجتمعنا في الداخل الفلسطيني على اختلاف مكوناته الدينية والسياسية؟! وهل سنسعد قريبًا عندما نشاهد مسرحية تصرخ فينا وتقول: يا مجتمعنا في الداخل الفلسطيني اصح يا نائم!! لا تتخلّ عن ثوابتك الإسلامية العروبية الفلسطينية، وعض عليها بالنواجذ؟! ولا تعقّ هويتك وجذورك وانتماءك؟! وماذا عن حزمة هموم تلاحقنا في الليل والنهار وكادت أن تسلب النوم من عيوننا؟! والتي يتصدرها همّ مصادرة أرضنا وهدم بيوتنا وتدنيس مقدساتنا هنا في النقب المطارد، وهنا في مدننا الساحلية التي تعاني من كيد الليل والنهار، وهنا في الجليل المثقل بالخطوب، وهنا في المثلث المسربل بالبلاء، وهل نرى من ضمن هذا المخاض المؤلم مسرحية عن الشيخ صياح شيخ العراقيب؟! وهل نرى مسرحية عن صمود بيارة أبو سيف بيافا؟! وهل نرى مسرحية عن مغامرات الريس الذي لا يزال يركب البحر بعكا وحيفا ويافا وجسر- الزرقاء؟! وهل نرى مسرحية عن حكايات برج قلاوون بالرملة؟! وهل نرى مسرحية عن جميز اللد وهل انقرض أم لا يزال؟! وماذا عن لغتنا العربية المظلومة فينا؟! هل نرى مسرحية تعبر عن مرارة خيبتها منا؟! فهي المظلومة فينا ونحن الظالمون لها؟! وها نحن بتنا نتخلى عن الكثير من مفرداتها متباهين بالبدائل الأعجمية عنها!! ويبدو أننا قد نسينا أنَّ الذي يتخلى عن لغته العربية منّا فإنما يتخلى عن وشيجة هي من أهم الوشائج التي تربطنا مع تكامل كل أبعادنا العقائدية والقومية والوطنية؟! فهل من مسرحية صادقة الحبكة، وصادقة الحوار، وصادقة الأداء المسرحي، وصادقة النبرة والعاطفة، وصادقة الانحياز إلى نبض شارعنا، تصيح فينا: قوموا!! انتبهوا!! استيقظوا إنّ لغة الضاد في خطر بسبب جفوتكم لها؟! وهذا يعني بناء على الأسطر السابقة أننا نملك كنزًا من القضايا المصيرية فينا التي تبحث عن المؤلف المسرحي المنتمي لكل هذه القضايا كيما ينقلها إلى خشبة المسرح محليًا ودوليًا، وكيما يجمع على خشبة المسرح صفوة من بني مجتمعنا من ممثلي مسرح يؤمنون أنَّ كل كلمة يقولونها على المسرح هي أمانة، وكل حركة يد أو قدم لهم على المسرح أمانة، وكل هزة رأس أو طرفة عين لهم على المسرح أمانة، وأن المسرح مهمة في الحياة تقوم على مبدأ البناء لا الهدم، وعلى مبدأ التغيير لا التنفير، وعلى مبدأ التصحيح لا التجريح، وعلى مبدأ إحياء القيم لا وأدها، وهذه المهمة للمسرح هي أبعد ما تكون عن إثارة الضحك لأجل الضحك، وأبعد ما تكون عن الغمز لأجل الغمز، وعن الهمز لأجل الهمز، وأبعد ما تكون عن فلتات اللسان لأجل الإثارة وخدش الحياء وتحدي الفضيلة!! لا سيّما وأنّ من يقرأ القرآن الكريم والسنة النبوية يجد فيهما مشاهد أدبية رفيعة لحوار مسرحي رفيع كما في سورة الكهف، وسورة يس، وسورة يوسف، وكما في الحديث النبوي الذي يتحدث عن الغار الذي آوى إليه ثلاثة فتدحرجت صخرة وأغلقت عليهم باب ذاك الغار. ولذلك كنت ولا زلت مقتنعًا أنَّ المسرح أداة تغيير لا يمكن الاستغناء عنها إن حافظنا على ضوابطها وأصولها واستقلال دورها، بعيدًا عن ضغوط أرباب مال منّا أو من غيرنا، وهذا ما دفعني أن أكتب منذ نهاية السبعينيات فصاعدًا، وبالتعاون مع بعض الموهوبين في عالم المسرح سلسلة مسرحيات كان من ضمنها: مسرحية (العم سام)، ومسرحية (غريب)، ومسرحية (سهرة مع التلفزيون العربي) ومسرحية (وصية لاجئ) وقد عُرضت هذه المسرحيات على خشبة المسرح الشعبي الجوال، وعلى خشبات مسارح جامعات في الضفة الفلسطينية وإقليم غزة، وقد ساهمت بمسيرة التغيير التي كنت أطمع بها، ولذلك كم فرحت عندما طلب مني بعض أهل المسرح كتابة مسرحية فكتبت لهم مسرحية بعنوان (أصلنا طيب) وكم فرحت عندما طلب مني مدير المركز الجماهيري في مدينتي أم الفحم، الناشط محمد صالح كتابة مسرحية فكتبت مسرحية بعنوان (المصيدة)، وقدّمتها بكل فرح وسرور إليه، ولا فضل لي في ذلك، بل كل ما أبتغيه هو مرضاة ربي ثم أن أرى مجتمعي في الداخل الفلسطيني قد تماثل للشفاء من جائحة العنف ومن كل الجائحات التي وقعت عليه، فهيا بنا إلى نهضة مسرح ملتزمة مسؤولة تدور مع قيمنا وثوابتنا حيث دارت، وتنتصر لكل نقطة ضوء تسعى إلى إسناد مجتمعنا في كافة مقومات نهضته وازدهاره ورقيه ، وسلفًا لا أدّعي العصمة، وأرحّب بكل نقد يقوم على أدب النقد بعيدًا عن التكفير والتخوين والتجريح وسقط الكلام.