الاستطلاعات بين التشكيك والتصديق
ساهر غزاوي
من أبجديات استطلاعات الرأي، أن يتم اختيار عيّنات من المستطلعة آراؤهم، تكون ممثلة لشرائح المجتمع ككل ويتوفر في هذه العينات التنوع الموجود في هذا المجتمع حتى يكون معبرًا عن الرأي العام، وليست استطلاعات معدّة لتحقيق مساعي وأهداف من يُجريها، تمامًا مثل استطلاع “مؤتمر جفعات حبيبة السنوي لمجتمع مشترك” الذي زعم وجود تغيير أكبر في توجهات المجتمع العربي منذ أحداث أيار 2021 (هبّة الكرامة) نحو الاندماج وتغير محدود في توجهات المجتمع اليهودي.
وبما أن استبيان “مؤتمر جفعات حبيبة”، أظهر “توجهات المجتمع العربي” (المجتمع العربي تحت خطين كبيرين) ولم يظهر على سبيل المثال عيّنات لشريحة معينة بحد ذاتها وغير ممثلة لشرائح المجتمع ككل، فأصبح لزامًا الوقوف عند هذا الاستطلاع الذي يُشرف عليه البروفيسور سامي سموحة والدكتور نهاد علي، ويحضرنا في السياق، البحث الذي أجراه البروفيسور سامي سموحة، عميد كلية العلوم الاجتماعية في جامعة حيفا عام 2008، هذا البحث الذي آثار ردود فعل غاضبة في الشارع الفلسطيني في الداخل، حول مصداقيته بعد أن أبرزت نتائج البحث، وفق سموحه، أن نحو 75%، من الشبان والشابات العربيات يؤيدون الخدمة المدنية، حيث اعتُبر البحث بعيد كل البُعد عن الواقع، خاصة وأن الغالبية الساحقة من الشبان العرب ضد الخدمة المدنية، هذا فضلًا على أن 72% من المستطلعة آراؤهم (في ذلك الوقت) أشاروا إلى أنهم لا يعرفون شيئًا أو يعرفون القليل عن الخدمة المدنية، بالإضافة إلى أن البحث طرح موضوع “الخدمة المدنية الإسرائيلية” على أنها “أعمال تطوعية” مجردة من بُعدها المؤسساتي وارتباطها بأجهزة الأمن الإسرائيلية، وهذا ما أثار التشكيك في نتائج البحث ورفضها من مختلف المستويات الجماهيرية والسياسية وخاصة الأكاديمية التي أجمعت أن أسئلة الاستطلاع كانت موجهة وأن تحليل المعطيات كان خاطئًا.
وبالعودة إلى استطلاع “مؤتمر جفعات حبيبة” فإنه، بحسب البيان، تم إجراء استطلاع بين 600 من اليهود، و501 من المستطلعين العرب، وغالبية هؤلاء المُستطلعين العرب يرون أن المجتمع العربي يود الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، بينما يعتقد نصف اليهود فقط أنّ هذا صحيح، كذلك فإنّ “نتائج “الاستطلاع” تعتبر مشاركة الأحزاب العربية في الائتلاف الحكومي أكثر إيجابية في نظر الجمهور العربي من الجمهور اليهودي، ومع ذلك، يرى كلا المجتمعين أنّ اتجاه دعم المشاركة السياسية للأحزاب العربية في صنع القرار آخذ في الارتفاع”.
على ضوء ما ذكر، فإنه من غير المستبعد أن تكون نتائج استطلاع “مؤتمر جفعات حبيبة” صحيحة وتصل إلى حد كبير من الدقة، لكن ما يدعو حقيقة للتشكيك في نتائج الاستطلاع ورفضها هو نَسب هذه النتائج إلى “توجهات المجتمع العربي” ككل، كما جاء في البيان، والسؤال المهم هنا، هل هؤلاء الـ 501 من المستطلعين العرب هم من العينات الممثلة لشرائح المجتمع ككل؟ وهل تم اختيار هذه العينات بشكل عشوائي؟ أم بعلم مسبق من قبل المشرفين على الاستطلاع لمواقف وميول المستطلعين وآرائهم السياسية؟! لا سيّما وأن المقاطعين لانتخابات الكنيست ومشاركة الأحزاب العربية في “لعبة الكنيست” الإسرائيلي من الأساس تصل إلى 50%- أي نصف المجتمع- فعن أي مجتمع عربي تتحدث نتائج هذا الاستطلاع؟ وأي مجتمع عربي تمثله مثل هذه العينات التي كان بإمكان البيان المذكور أن يقول بشكل واضح أن هؤلاء الـ 501 من المستطلعين العرب هم الشريحة المؤيدة للمشاركة في الكنيست فقط والتي نسبتها تصل إلى 50% وليسوا من المجتمع ككل!!
إنّ أكثر ما يدعم ما ذهبت إليه بخصوص دقة نتائج استطلاع “مؤتمر جفعات حبيبة” ونسبتها إلى “توجهات المجتمع العربي ككل”، هو التجربة الشخصية في هذا المضمار، فلطالما تساءلت عن سبب عدم استهدافي الشخصي في استطلاعات الرأي التي تُجرى عشية انتخابات الكنيست المتكررة في السنوات الأخيرة، بينما أكاد لا أفلت من أي استطلاع يجرى عشية انتخابات السلطات المحلية في مدينتي الناصرة، لولا العلم المسبق للمشرفين على الاستطلاع بأن كاتب هذه السطور معروف بموقفه المقاطع لانتخابات الكنيست بعكس انتخابات السلطات المحلية التي يمكن أن يكون له خيار بين الذهاب إلى صندوق الاقتراع أو عدم الذهاب.
وهناك تجربة أخرى في هذا المضمار، فقبل عدة أشهر أجرت معي طالبة جامعية من مجتمعنا العربي مقابلة عبر تطبيق الزوم استمرت قرابة الساعة، ضمن عدة مقابلات تجريها مع فريق بحثي في إحدى الجامعات الإسرائيلية بهدف إجراء البحوث والاستطلاعات حول قضية من القضايا الكثيرة والمتشبعة في الصراع على أرض فلسطين- الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كما يسمونه- وبعد الانتهاء من تسجيل المقابلة، صارحتني الطالبة بالقول إنها خرجت من المقابلة بنتائج مختلفة تمامًا عمّا حصّلته من معلومات ونتائج من مقابلات أجرتها سابقًا، وصارحتني أكثر بالقول إن اسمي واسم من يشبهني بالمواقف والآراء والتوجهات، لم يكن مدرجًا في قائمة المقابلات التي أعدّها أحد المشرفين على الفريق البحثي، وهو محاضر أكاديمي (عربي) يتبنى المواقف والآراء والتوجهات التي تدعم مسارا واتجاها معينا في هذا الصراع، والأنكى من ذلك أن جميع الأسماء التي رشحها في قائمة المقابلة يشبهون بعضهم بعضًا في الآراء والمواقف!! وهكذا لولا فطنة هذه الطالبة ولولا وعيها السياسي واحترامها للأمانة العلمية لما أصرت على ادراج اسمي في قائمة المقابلات أو أسم أي شخص لا يشبههم في الآراء والمواقف والتوجهات، ليأتوا بعدها للحديث باسم الأغلبية وباسم المجتمع العربي على نتائج استطلاعات أبحاثهم التي تتعارض حقيقة مع مواقف وآراء أغلبية المجتمع.