أقلام نظيفة للحق وأقلام رخيصة للباطل
الشيخ كمال خطيب
لأن الله سبحانه لا يقسم إلا بشيء عظيم خلقه، فإنه قد أقسم بالليل وبالفجر وبالعصر وبغيرها {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} آية 1-2 سورة الليل. {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} آية 1-2 سورة الفجر. {وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} آية 1-2 سورة العصر.
وكان القلم مما أقسم الله به لما قال سبحانه: {ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} آية 1 سورة القلم. إنه القلم أول ما خلق الله من الخلائق كما قال النبي ﷺ: “أول ما خلق الله القلم ثم قال: اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة”.
إنه القلم إذن وسيلة الكتابة بما لا مجال للمقارنة بين الأقلام نكتب بها نحن البشر، وبين الأقلام تكتب بها الملائكة وتسجل كل ما نقول ونفعل {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ*كِرَامًا كَاتِبِينَ} آية 9-10 سورة الانفطار. {بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} آية 80 سورة الزخرف.
وإذا كان كل ما نفعله ونقوله بل وما توسوس به نفوسنا، فإن ملائكة الله ستكتبه وعنه سنسأل يوم القيامة. بل إن الكتبة من الملائكة ستكتب بأقلامها ما نكتب نحن بأقلامنا، وسنسأل عنه يوم القيامة.
وعليه فلقد عرف العلماء الصادقون والمجاهدون والصالحون قيمة القلم بين أصابعهم، فكتبوا به كل نافع ومفيد، وأبت عليهم نفوسهم العالية أن تكتب أقلامهم الشريفة النظيفة ما هو وضيع وتافه. ومقابل هؤلاء فما أكثرهم الذين دنّسوا شرف القلم وأهانوه لما جعلوه وسيلة للترزق عبر تأجيره، بل وبيعه لمن يدفع أكثر، فأصبحت أقلام هؤلاء وسيلة بل من أخطر وسائل الظلمة والطواغيت في تجميل وتلميع أنفسهم وتحسين صورتهم. فما أكثرها الأقلام التي كتبت والمنابر التي صدحت والحناجر التي صرخت تشيد بالظالمين والطواغيت. ولأننا في زمن بيع الأقلام وتأجيرها “كتّاب البلاط”، وبيع المنابر “شيوخ البلاط”، وبيع وتأجير المواقع والصفحات “صحفيو البلاط”، بل بيع وتأجير الضمائر بثمن بخس، فلا بد من التذكير بأن هناك في الأمة من كانوا وما زالوا ممن رفضوا أن يؤجّروا أقلامهم ولا أن يبيعوها، ولا أن يكتبوا بها كلمة ولا حرفًا في تمجيد ظالم أو إعانة طاغية.
قلم الشهيد عمر المختار
بعد وقوع البطل الليبي الشيخ عمر المختار في أسر الجيش الطلياني المستعمر، كانت جلسة استجواب بين الضابط الإيطالي في المحكمة العسكرية وبين الشيخ عمر المختار، فسأله الضابط: “هل حاربت الدولة الإيطالية؟ قال عمر المختار: نعم. وهل شجعت الناس على حربها؟ قال عمر المختار: نعم. وهل أنت مدرك عقوبة ما فعلت؟ قال عمر المختار: نعم. وهل تقرّ بما تقول؟ قال عمر المختار: نعم. كم سنة وأنت تحارب إيطاليا؟ قال عمر المختار: منذ عشر سنين. وهل أنت نادم على ما فعلت؟ قال عمر المختار: لا. وهل تدرك أنك ستعدم؟ قال عمر المختار: نعم. قال القاضي الضابط: أنا حزين بأن تكون هذه نهايتك. فردّ عليه عمر المختار: بل هذه أفضل طريقة أختم بها حياتي. فحاول القاضي الضابط إغراءه بالعفو عنه مقابل أن يكتب بخط يده رسالة للمجاهدين بالتوقف عن قتال الطليان. فنظر إليه عمر المختار وقال كلمته المشهورة: إن السبابة التي تشهد في كل صلاة لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، لا يمكن أن تكتب كلمة باطل، نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي، يا هؤلاء لئن كسر مدفعكم بندقيتي فإن باطلكم لن يكسر حقي”.
مات عمر المختار شنقًا لكن التاريخ خلّد ذلك الثبات وخلّد أن عمر المختار لم يهن بندقيته لتكون بندقية استعراضات أصحاب الجلالة والفخامة، ولم يهن قلمه بأن يكتب به يمالئ به الظالم والمحتل.
قلم الشهيد سيد قطب
إنه الشهيد سيد قطب رحمه الله وقد وقف منافحًا ومدافعًا عن الإسلام، سخّر لذلك لسانه وفكره وقلمه، وظلّ يقارع الطواغيت أدعياء الفكر القومي أبطال هزيمه 1967. وخلال سجنه وقد حُكم عليه بالإعدام شنقًا رغم مرضه، وبعد سنوات سجنه، وقد تدخلت شخصيات عربية وإسلامية عند جمال عبد الناصر لمنع إعدامه ومنهم الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، وقد عرض عليه البعض أن يكتب رسالة استرحام وأسف وندم على مواقفه يتوجه بها إلى جمال عبد الناصر لعله يعفو عنه، فكانت الكلمات الخالدة التي نطق بها لسانه: “إن أصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في الصلاة تأبى أن تكتب كلمة واحدة تقرّ بها لحاكم طاغية، فإن كنت مسجونًا بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت مسجونًا بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل”.
أعدم سيد قطب شنقًا يوم 29/8/196 دون أن يلطخ قلمه ودون أن يهين سبابته، ودون أن يؤجر ضميره. وبعد إعدامه بأشهر وتحديدًا يوم 5 حزيران 1967 كانت هزيمة وفضيحة عبد الناصر في نكسة 1967، هذه الذكرى الحزينة والفضيحة الكبيرة التي ستمر علينا قريبًا خلال الأيام القليلة، ولقد قال الشاعر أحمد محمد الصديق في وصف قلم سيد قطب النظيف الشريف:
أقبلت نحو الله تدعو للهدى والناس في لهو وفي إدبار
يتهافتون على السفاسف بينما ترنو إليهم مشفق الأنظار
وتجرد القلم الزكي مذكرًا بالله ترفض غير حكم الباري
إنه قلم سيد قطب الذي يكفيه شرفًا وعفة وطهرًا أنه ليس فقط رفض به أن يكتب استرحامًا لظالم، وإنما به كتب وخطّ تفسير كتاب الله عز وجل الذي أسماه “في ظلال القرآن”.
وإنه قلم سيد قطب الذي كتب قصيدته المشهورة لأبناء الدعوة الإسلامية يثبتهم وينفث فيهم العزيمة والإباء وعدم الخضوع وممالأة الظالمين لما قال لهم:
أخي أنت حر وراء السدود أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصمًا فماذا يضيرك كيد العبيد
أخي فامض لا تلتفت للوراء طريقك قد خضبته الدماء
ولا تلتفت هنا أو هناك ولا تطلع لغير السماء
فلسنا بطير مهيض الجناح ولن نستذل ولن نستباح
وإني لأسمع صوت الدماء قويًا ينادي الكفاح الكفاح
سأثار لكن لرب ودين وأمضي على سنتي في يقين
فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين
أقلام للبيع
فإذا كان قلم الشهيد عمر المختار ظلّ طاهرًا شريفًا مثل سلاحه، وإذا كان قلم الشهيد سيد قطب ظلّ طاهرًا شريفًا مثل لسانه. فمثل قلم المختار وقطب كان وظلّ قلم المرحوم الشيخ محمد الغزالي صاحب مقولة: “إن أقلامنا هذه التي شبّت على الحق ستظلّ تقارع أقلامكم التي شابت على الباطل”. إنه يوجه كلامه لأصحاب الأقلام المأجورة التي عرضت نفسها بثمن بخس دراهم ودولارات معدودة من فتات الطواغيت فأصبحوا يسبحون بحمدهم.
ما أكثرهم أصحاب الأقلام هؤلاء الذين يبيعون دينهم بدنيا الملوك والأمراء والرؤساء، هؤلاء الذين أصبحوا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. إنه المنكر الأخلاقي والمنكر السياسي يرتكبه الفاسدون ليجدوا الأقلام المأجورة تطبل لهم وتمجدهم. وما أصدق ما قاله في وصف هؤلاء ابن الشام الشاعر أنس الدغيم:
ولقد يثور على الطريق منافق ولقد يتاجر بالقضية تاجر
وعلى الطريق الوعر يثبت صادق حرّ ويسقط بائع ومقامر
ما أكثرهم الذين باعوا أقلامهم وأجّروها للظالمين والفاسدين والطواغيت، وارتضوا أن يكونوا خدامًا لهم بل سوطًا لهم، به يلهبون ظهور الصالحين، بل وينتهكون أعراضهم، مع أن الله سبحانه قد نهى عن الركون إلى الظالمين وممالأتهم بالقول باللسان أو بالكتابة بالقلم أو غير ذلك، فقال سبحانه: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} آية 13 سورة هود. أي لا تميلوا إلى الذين ظلموا ولا توادوهم ولا تطيعوهم ولا تداهنوهم. قال الإمام مكحول الدمشقي: “ينادي منادٍ يوم القيامة أين الظلمة وأعوانهم؟ فما يبقى أحد مدّ لهم حبرًا أو حبّر لهم دواة أو برى لهم قلمًا فما فوق ذلك إلا حضر معهم، فيجتمعون في تابوت من نار فيلقون في جهنم”. وقال سفيان الثوري: “من برى لهم قلمًا أو ناولهم قرطاسًا دخل في هذا” أي الركون إلى الظالمين. وقال الحسن البصري: “من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يُعصى الله”، لأن الظالم ممن يهيىء للناس أسباب المعاصي. ما أكثرهم الذين يدعون للظالمين من على المنابر، بل أشرف المنابر وهم يعلمون أنهم يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا.
ولما سجن الإمام أحمد بن حنبل جاءه السجاّن فقال: يا أبا عبد الله الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟ قال: نعم. قال السجّان: فهل أنا من أعوان الظلمة؟ قال له: أعوان الظلمة من يأخذ شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك ويبيع ويشتري منك، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم”.
إنهم أعوان الظلمة من أشباه علماء ودعاة أجّروا أقلامهم وألسنتهم ومنابرهم في خدمة الظلمة والطواغيت والعملاء، وقد قال أحد الأفاكين من هؤلاء في مخاطبة بشار سفاح الشام: إن الله أقامك مقام خالد بن الوليد وعمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي، وإن الله أقامك مقام أولئك العظماء الذين نصروا الأمة على أعدائها، فامض لما أقامك الله وتسلّح بالعزم والإيمان.
ووصف دجال أزهري السيسي ووزير شرطته محمد إبراهيم بأنهما رسولان من عند الله مثلهما مثل موسى وهارون عليهما السلام.
وأفتى فرخ دجّال يمالئ السيسي في حربه على الإخوان المسلمين قائلًا: من عرف أن زوجته تنتمي للإخوان المسلمين فيجوز تطليقها لأنها تعتبر قنبلة موقوته.
وإننا إن نسينا فلن ننسى ما قاله قاضي القضاة في فلسطين وخطيب مسجد أبي مازن في رام الله محمود الهباش، يوم ذهب أبو مازن لجنازة شمعون بيرس الثعلب رئيس إسرائيل: لو أن رسول الله ﷺ كان حيًا لفعل فعلتك ولما أنكر عليك. ولن ننسى ما قاله طفيلي سعودي: “إن الله قد بعث محمدًا ليصحح ما جاء به إبراهيم، وإننا اليوم بحاجة لمن يصحح ما جاء به محمد”. وقد جاء محمد بن سلمان يقوم بالمهمة القذرة في محاربة ما جاء به محمد ﷺ. أين سيذهب هؤلاء من قول رسول الله ﷺ: “من أعان ظالمًا ليدحض بباطله حقًا فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله”.
ما أكثرهم أولئك الذين باعوا ضمائرهم وخانوا العلم الذي في صدورهم وأجّروا أقلامهم ومنابرهم ومواقعهم ومناصبهم في خدمة الظلمة. فليس أعوان الظلمة فقط هم شرطته ومخابراته وحرّاسه ووزراؤه وقادة جيشه، بل إنهم جيوش القضاة ومشايخ السوء والفنانون والصحفيون والإعلاميون وغيرهم، ولكن أخبث هؤلاء وأرخصهم ليسوا إلا مشايخ السوء.
يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا وأقلامنا على دينك ونصرة دعوتك يا رب العالمين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.