نحو مسرح عربي هادف في مجتمعنا
عبد الإله المعلواني- طالب دكتوراه في جامعة بئر السبع، ومحاضر في كلية القاسمي ومدرس مسرح واعلام في الثانوية
لطالما عكس الفن نضج الحركة الثقافية والفكرية لأية أمة من الأمم، فحمل في ثناياه رسالة القيم في بناء المجتمع ومعالجة قضاياه وتحدياته بلغة متوازنة وبسيطة تتناسب والجمهور واهتماماتهم، كما قال توفيق الحكيم في كتابه أدب الحياة: “إن الإنسانية لن يكتمل نضجها إلا إذا استطاعت قوة الفكر أن تعادل وتوازن قوة العمل”. ونحن في الداخل الفلسطيني تقدّمنا في رعاية الثقافة والفكر عبر الفن الهادف، من شعر و أدب و مناظرات ولقاءات اجتماعية وثقافية، ومؤخرا استقبلنا الفن المسرحي كعنوان جديد في مدينة أم الفحم ذات العراقة العربية وإرثها وتاريخها الحضاري.
فكانت المسرحية العربية بوابة تناقش قضايا مجتمعنا الفلسطيني في الداخل ضمن فن التراجيديا تارة وفن الكوميديا تارة أخرى، أو الدمج بينهما، لتحقيق رسالة هادفة ذات سياق فنّي ممتع، تقدم الابتسامة على الوجوه المرهقة، وتعطي الروح مساحة مستقلة عن ما تعلق بها آثار الحياة ولأوائها.
غير أننا نذكّر الممثل المسرحي وهو يحلّق في فضاءات المفردات وسحر التراكيب على خشبة المسرح أنه ابن بيئته وسيد منصته، وقائد ابداعه، وساحر مشاهديه، وهو لسان قلم الكاتب وجوهر أفكاره وتعابيره عن المجتمع، فكيف لهذا الكاتب أن يغدو بقلمه من أداة بناء رائدة، إلى معول هدم باسم الثقافة والفن.
لذلك وبكل أسف، بتنا نراقب هدم القيم والاعتبارات الدينية والوطنية والشخصيات الاعتبارية عبر اتخاذها مادة للتندّر والفكاهة تحت عنوان حرية الفن، في رسالة مغايرة لحقيقة الفن، فيصبح قلم المسرحي والممثل على خشبة المسرح أداة لتغيير المزاج الشعبي العام تجاه هذه المعاني، وتوظيفا لصورة جديدة غير حقيقية، تجاه صور لا تزال مثالية في أعين الناس، باسم الكوميديا تارة، والتراجيديا تارة أخرى، كما يقول مالك بن نبي في كتابه مشكلة الأفكار: إن أي فساد في علاقات الأفكار فيما بينها أو علاقاتها مع عالم الأشخاص أو علاقتها مع عالم الأشياء لابد أن يولد اضطرابًا في الحياة الاجتماعية، وشذوذا في سلوك الأفراد، خصوصا عندما تصل القطيعة مع النماذج إلى مداها الأقصى، وتصبح قوالب أفكارنا ممسوحة في ذاتنا، وتصبح أفكارنا الموضوعة والمصبوبة في تلك القوالب لا شكل لها.. ولا أهمية”.
نحن اليوم نوجه النّصح لهؤلاء المبدعين من كُتاب وممثلين، أن حافظوا على الرسالة القيمية التي وُجد المسرح من أجلها. ونوجه كذلك المسؤولين إلى المحافظة على رسالة الفن كأداة بناء وتقويم حضاري، ووضع ضوابط مهنية تهدف لتصحيح الخلل لا تقييد الإبداع الذي ندعمه ونشد على إعطائه المساحة التي نريد، لأنني أؤمن بقول توفيق الحكيم في عدالة الفن: “إن في الدنيا أشخاصًا يجرى في دمائهم الفن وهم لا يشعرون”.
كما نناشد الجمهور الناقد الذي يمنح المسرحيات تصفيقا وتشجيعا، أن يوجه رفضه لكل أشكال التغيير الفكري، أو اغتيال الشخصيات المهنية، أو القامات الوطنية، تحت عنوان مفتوح اسمه حرية الفن.
لقد شاهدت مؤخرا على مسرح أم الفحم مسرحية (كافيار وعدس)، للمخرج هشام سليمان و المعد أسامة نصري، لقد كنت متشوقا لمتابعتها، بعدما دعيت إليها من قبل مدير المركز الجماهيري الأستاذ محمد صالح- له جزيل الشكر- وذلك تكريما لمؤسستنا الإعلامية صحيفة المدينة التي واكبت تاريخ المسرح من مطلع التسعينيات إلى يومنا هذا. كمتخصص في مجال المسرح والسينما، أُسجّل بعض الملاحظات التي شكلت لدي تساؤلات مشروعة، فأي فن ذاك الذي يصف عبر شخصياته الخيالية راعي الفقراء والأيتام باللص المحتال، والساعي خلف الأموال، والذي قد يبيع عرضه وقيمه من أجل جمع الأموال، فنغتال بذلك كل أمثاله في الحقيقة من أولئك المضحين المتفانين لأجل هذه الفئة المهمة في مساحة الخير في هذا العالم، لا سيما والكل منا يعرف أن الجمعيات الراعية لعمل الخير، ليست حكرا على فئة منا، بل هناك مئات الجمعيات الخيرية التي نحفظ لها الاحترام والتقدير والتي تعبر عن جهد بعض الاحزاب والحركات السياسة والاجتماعية والدينية والقانونية والتي قد تكون جمعيات ذات رسالة تعليمية او صحية او اغاثية او رياضية… فلصالح من أن يحاول البعض اغتيال جهود كل هذه الجمعيات باسم الفن؟! وأي فن ذاك الذي يعكس مجتمعنا بشكل مضلل، عبر ابتذال السفور والمزاح دون ضوابط ما بين المرأة والرجل تارة، وبين احترام الصغير لوقار الكبير تارة أخرى، في سياقات تركيبية درامية موجِّهة، متجاوزين مكانة القدوات في حماية المجتمعات وتحصينها. ثمّ أين ذلك النص المقتبسة منه المسرحية التي لم نعرف من صاحبها ومن أي لون من مدارس المسرح العالمي تمت ترجمته (النص) وتكييفه ليتناسب وثقافتنا؟ وأين معيار الوقت الذي كاد يتجاوز المعيار العالمي لفن المسرح في سابقة جعلت الملل وطول الوقت أزمة تواجه المتابعين؟
إنني انصح كُتاب وممثلي المسرح أن يضعوا لقيمة النص والوقت اعتبارا، فكيف تريد منا دعم هذه المساحة الفنية، وأنت بدأت اغتيالها بتجاوز عامل المكان والزمان وتسلسل الأفكار، ولذا ندعوهم لإعادة مراجعة النص المسرحي، واختزال بعض مشاهده بدلا من حالة المماطلة في سياق القصة، أو التقويم لبعض الفصول منها، وانسجامها مع ذواتنا وما تحمله من خير للناس، وعنوانا للقيم. إنني من خلال هذا المنبر الإعلامي أنصح الجميع وعلى رأسهم بلدية أم الفحم والمسؤولين والداعمين والكُتاب والممثلين، أن يوحّدوا خطابهم في رسالة تحمي المجتمعات وشخصياتها، وتحصن قيمنا، وتصحح الأخطاء فينا لمستوى القيم ومثالية الحضارة، وروح الإيمان. وأدعو مجتمعنا بأن يقفوا إلى جانب هذه الطاقات الشابة المحترفة ويدعموهم ويصوّبوا أداءهم ليكون انعكاسا عادلا لمرآتنا، وهو كذلك وإن أخطأوا.
ختاما، أرجو أن أجد في زيارتي القادمة إلى مسرح أم الفحم انطباعات أفضل مضمونا، وأرقى رسالة ورؤية.