الشهيد ديار من هذه الديار
ساهر غزاوي
جاء مشهد قتل الشهيد ديار العمري ابن قرية صندلة في منطقة مرج ابن عامر من هذه الديار على يد مستوطن إسرائيلي أصوله غريبة عن هذه الديار، ليعيد إلى ذاكرتنا الجمعية الفلسطينية التي لا تزال حيّة ومحفورة في الوجدان وحاضرة في الأذهان، ذكرى مجزرة صندلة عام 1957 التي راح ضحيتها 15 طفلًا من طلاب مدرسة القرية، خاصة أثناء تشييع الشهيد الشاب العمري ومواراة جثمانه الطاهر في مقبرة القرية التي يرقد فيها الأطفال الشهداء الذين تطايرت أشلاؤهم نتيجة انفجار قنبلة من مخلفات الجيش الإسرائيلي، حين اقتربوا منها وهم في طريق عودتهم من المدرسة.
من المهم استحضار مجزرة صندلة، تلك القرية التي كانت تعتبر منطقة عسكرية مغلقة، لا يخرج الأهالي منها ولا يدخلون إليها إلا بتصريح عسكري، مثلها كسائر البلدات العربية في أراضي الـ 48 التي كانت ترزح تحت وطأة الحكم العسكري الذي استمر ما بين عامي 1948 – 1966، من المهم الاستحضار هنا لإثبات مدى إدراك العقل الجمعي للشعب الفلسطيني لحقيقة الواقع على حقيقته، ومن جهة أخرى لإثبات فشل محاولات محو ذاكرتنا الجمعية الفلسطينية وتجفيف منابعها، هذه الذاكرة التي تأبى النسيان أضحت جزءًا هامًا وعلامة مميزة في شخصية الفلسطيني الصامد في أرضه والثابت على حقه الذي لا يسقط بالتقادم، ولا يلغيه تجبر ظالم.
ونحن على بُعد أيام قليلة من ذكرى النكبة الفلسطينية في عامها الـ 75، لا سيّما ونحن في شهر أيار الذي في منتصفه عام 1948 أعلن فيه عن قيام الكيّان الإسرائيلي على حساب شعب فلسطين وأرضه، بناءً على المقولة المزيفة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. ويأتي مشهد جريمة القتل العنصرية على خلفية قومية للشهيد ديار العمري لتذكرنا أن النكبة مستمرة ودماء العرب والفلسطينيين في هذه الديار كانت ولا تزال مستباحه، بغض النظر عن صور القتل وأشكالها، وبغض النظر إن كان القتل على صورة خلفيات قومية عنصرية على يد المستوطنين أو على يد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في إطار ما يسمى “الإعدام الميداني” – أي القتل خارج القانون- أو في إطار ما يسمى “الجريمة المنظمة” التي باتت تحصد يوميًا أرواح العرب الفلسطينيين في هذه الديار، هذه الجريمة المرتبطة بمنظومة الدولة والتي تُنفذ بأيد عربية متعاونة مع جهاز الأمن الإسرائيلي العام (الشاباك)، كما صرَّح ذات يوم أحد المسؤولين في الشرطة الإسرائيلية.
وعن حقيقة هذه الديار، فإنها حقيقة أريد لها أن تغيب عن مشهد الصراع على أرض فلسطين الذي استمر على مر التاريخ وسعت إليه القوى العالمية لبسط السيادة العقائدية والفكرية والحضارية والاقتصادية والسياسية والعسكرية عليها، وقضية الصراع على أرض فلسطين تتعلق بدوائر ثلاث، الدائرة الفلسطينية، والدائرة العربية، والدائرة الإسلامية، وكل دائرة من هذه الدوائر لها دورها وواجباتها في هذا الصراع.
ويخطئ من يتعمد اختزال حقيقة الصراع على هذه الأرض بصراع طبقي متعلق فقط بمقاومة ورفض الأساليب والممارسات الإسرائيلية في فلسطين أو متعلقة بتحسين الظروف المعيشية للمجموعة المُسْتَعْمَرَة والمطالبة بالمساواة وتقبل الآخر!! بينما الصراع في حقيقته صراع وجودي يؤكد رغبة الصهيونية في التطهير العرقي للفلسطينيين ومحو هويتهم وتاريخهم من هذه الديار، وعلى هذا الأساس وانطلاقًا من مفهوم الطرف الآخر لحقيقة الصراع أطلق المستوطن المجرم دنيس بوكين النار على الشاب ديار ليرديه قتيلًا مضرجًا بدمائه الذكية الطاهرة لينضم إلى قافلة شهداء فلسطين الأبرار وينضم إلى مئات الآلاف من الشهداء عبر تاريخ نضال هذه الأرض الطويل.
الشهيد ديار من هذه الديار المباركة، المجبولة بدماء الآباء والأجداد، وابن أرض الإسراء والمعراج، وأرض المحشر والمنشر ومهد الرسالات، حيث تأتي أهمية هذه الأرض من قيمتها ومزاياها التاريخية والدينية والحضارية، لا سيما وأنها أرض الإيمان والرباط الذي يظهر أهلها تمسكهم بحقوقهم ووطنهم وأرضهم ومقدساتهم وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك، وقدموا في سبيل ذلك الغالي والنفيس، وهي الأرض والديار التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم، إلا ما أصابهم من لأواء (أي أذى) حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قالوا: وأين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس).