الخارطة السياسية الإسرائيلية ومسائل التآكل الحزبي (2)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
مدخل..
النظام السياسي في إسرائيل ليس كيانًا ذاتيًا، أي أنه ليس دولة ولا منظومة حاكمة ولا مؤسسة سياسية أو تنظيمًا فاعلًا بذاته أو لذاته مقررًا، بل النظام السياسي أيًا كان، في جوهره تعريف علمي مجرد يعبر عن العلاقات السياسية المتبادلة الدافعة نحو العمل المشترك- بألـ التعريف- في داخل المجتمع وفي حالتنا المجتمع “الإسرائيلي “، ذلك المجتمع الذي يعج بالتناقضات وتمَّ تصنيعه في معامل الحركة الصهيونية سواء في مراحل “الدياسبورا” أو “الييشوف “.
مصطلح النظام السياسي في السياق الإسرائيلي مرتبطٌ جذريًا بالعملية السياسية التي هي ممثلة له ومعبرة عنه في جدل العلاقة البينية داخل مكونات المجتمع الإسرائيلي، والأذرع المنبثقة عن النظام بثلاثياته التشريعية وما ينبثق عنها من مكونات وأدوات، والتشريعية وما ينبثق عنها من منظومات وقوانين، والتنفيذية وما ينبثق عنها من مفاعيل تنفيذية.
النظام السياسي محملٌ بالتفاعلات السياسية
وظيفة النظام السياسي وظيفة توجيهية مثلها تمامًا كمقود السيارة أو السفينة، التوجيه والحفاظ على توازن المركبة لضمان سيرها ووصولها إلى الهدف الذي يصبو إليه من فيها، ولذلك فإن قوة وصلابة النظام السياسي تكمن في مقدرته على القيادة والتوجيه وضمان بقائه من جهة، والاستثمار في وجوده كنظام من خلال تعبئة وتوجيه وخلق حيوية دائمة في المفاعيل السياسية المعبرة عنه خاصة، في دولة ديموقراطية، الأحزاب، وذلك ضمن معادلات التكيف السياسي الداخلي المفضي إلى تحقيق مصالح المجتمع من جهة، وترسيخ مستمر للقيم وخاصة قيم العدالة داخل ذات المجتمع (الإسرائيلي)، والتعامل بعقلانية وقدرة وصلابة على تحمل معضلات المحيط بالنظام السياسي سواء كان داخليًا من مثل وجود أقليات، أو/ والمحيط الخارجي، مثل دول معادية أو صديقة، وهو ما يتطلب قدرة من النظام السياسي على التعاطي والتعامل مع التغيرات في البيئة المحلية. في الحالة الإسرائيلية، تعزز مكانة الجهويات والفئويات على حساب الصالح العام، وغلاء الأسعار وارتفاع معدلات تكاليف الحياة، والهجرة العكسية ومسألة تحصُّل اليهود من حملة البطاقات الزرقاء على جنسيات أوروبية مثل البرتغالية وحاليًا الألمانية، وفي الحالة المحيطة، مثلًا: الربيع العربي الذي ما زالت تداعياته قائمة وتحقيق وبناء علاقات مع دول الجوار و/أو التعامل مع القضية الفلسطينية.
لذلك فإن مصطلح النظام السياسي مُحَملُّ بالتفاعليات السياسية البينية الدافعة نحو تثوير سياسي داخلي يستطيع التعامل مع التغيرات السياسية الجارية في الدولة بفعل الصيرورة الزمانية والمكانية والأحداث الجارية في نهر الحياة السياسية، ولذلك ثمَّة حاجة جوهرية لتحقيق معاني التوازن السياسي الداخلي بين المكونات المجتمعية المختلفة المؤسس على قيم العدالة وتساوي الأعباء من جهة، وعلى تحقيق حريات التعبير عن الرأي المُصاحب لتحقيق الأمن القومي (تعامل خارجي) والأمن المجتمعي (الأمان الداخلي)، وهذا التوازن يمكن أن يتهاوى بمجرد طرح قضايا سياسية ظاهرها صحيح من مثل تحقيق الحكم والحوكمة كتلك التي يطرحها اليمين الحاكم راهنًا، ذلكم أنّ كل عملية سياسية أيًا كانت تحتاج ليس فقط إلى سلطة، بل إلى مواطنين يؤمنون في الحاكم/ الحكم/النظام الحاكم/ ويشاركونها في العمل والتوجيه السياسي.
تنطلق تحليلاتنا السياسية للحالة الحزبية الإسرائيلية من قاعدة أكدها علماء السياسية الإسرائيليون بعد قراءات تاريخية تمحيصية لصيرورات الحالة السياسية الإسرائيلية منذ عصر “الييشوف” (1921-1948) وحتى النكسة العربية (حرب عام 1967) وسقوط ما تبقى من فلسطين وخاصة القدس وجوهرتها المسجد الأقصى المُبارك.
هذه القاعدة تقول: منذ عام 1948 وحتى عام 1967 عمل النظام السياسي الإسرائيلي ومن ثم جهازه السياسي، على أساس من الفعل السياسي البناء المتسم بالإخلاص للقيم العليا المتمثلة بتمتين وجود الدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية داخل المكون المؤسس للدولة من جهة، وامتلاك المقدرة على إدارة الأزمات السياسية الداخلية والخارجية وتحقيق أهداف مشتركة من مثل الاستيطان داخل المناطق العربية التي وقعت تحت السيطرة الإسرائيلية، فرض الحكم العسكري على الفلسطينيين ممن بقوا تحت الحكم الإسرائيلي، مصادرة أراضيهم، تطوير العلاقات مع الغرب والشروع بالتخلي التدريجي عن المعسكر الشرقي دون قطع العلاقات معه، التمدد البطيء في العالم العربي والإسلامي من خلال أجهزة الأمن لتحقيق أكبر قدر من المصالح الإسرائيلية.
في هذا السياق، ثمَّة معطيات مهمة لفهم الراهن السياسي الإسرائيلي الذي يتسم حاليًا بالتعددية السياسية التمثيلية. أهم هذه المعطيات، أنَّ التوافق السياسي وتحقيق الأهداف المرسومة وما ذكرته آنفًا، تحقق على حساب التمثيل السياسي لمختلف القوى السياسية وعلى حساب الانفتاح السياسي الداخلي- لنتذكر أنَّ حزب العمل الحاكم في مراحل إسرائيل الأولى، تعاطى سياسيًا مع الراهن الإسرائيلي آنذاك من خلال القنوات الأمنية والنظرة البلشفية للآخر وفرض سياساته التي اعتقد الحزب أنها مهمة لإسرائيل كيانيًا ووجوديًا، ويعني هذا المُعطى، أنَّ إسرائيل في مراحلها الأولى قدَّمت التوجيه والفعل القيادي على التمثيل السياسي والتعددية السياسية المؤثرة في القرار السياسي والاقتصادي والحوكمي. هذه الحقيقة ارتبطت جذريًا ببن غوريون ومن أحاط به من القيادات التي قادت تلكم المرحلة سياسيًا وأمنيًا وعسكريًا، ولذلك بقيت آثاره إلى هذه اللحظة على مجمل الأوضاع السياسية والعسكرية والأمنية والمجتمعية، وعلى أساس من توجيهاته تعاظمت إسرائيل ووصلت إلى ما وصلت إليه، ومحاولات نتنياهو ومعسكر اليمين المس بهذه الثوابت التي وضعها كموجهات للسياسة الإسرائيلية، يراها الكثيرون مسًا في جوهر الدولة وتقويضًا لها، علمًا أنها عمليًا تتماشى وجوهر السياسة الإسرائيلية الحزبية القائمة على التعددية وتفعيل الأحزاب طروحاتها سياسيًا برسم وجودها في الحكم، بيدَّ أنَّ الهوة عظيمة بين مطالب الأحزاب السياسية المشاركة في الحكم حاليًا القائمة على تصورات تلمودية وتوراتية متعلقة بكيفية إدارة الدولة، وبين القائم المُؤسس على قاعدتي فصل السلطات ظاهرًا، والتوجيه والحماية الأمنية للدولة ومؤسساتها باطنًا.
القضية الفلسطينية إذ تحضر بقوة في السياسة الحزبية
معنى الحديث آنفًا أن القضية الفلسطينية دخلت وحضرت بقوة في السياقات السياسية الإسرائيلية وتعاقدت وتعاضدت قيم توراتية وتلمودية تبنتها أحزاب سياسية دينية مع الطروحات العلمانية “العمالية” التي آمنت بأن فلسطين التاريخية هي إسرائيل التي حلم بها الآباء الصهاينة، وكانت هذه الأحزاب التي شاركت تاريخيًا في الحكومات العمالية العلمانية، ونجح ربانها، الحاخام كوك في خلق مزاوجة تاريخية ومن ثم حقيقية بين العلمانية الصهيونية والتلمودية اليهودية فيما يتعلق بالاستيطان والحقوق على أرض الميعاد خاصة بعد نكبة الشعب الفلسطيني الثانية “حرب عام 1967”.
لذلك دخول القضية الفلسطينية ممثلة بالداخل الفلسطيني والشتات الفلسطيني ومن وقعوا تحت الاحتلال بعد عام 1967، إلى الحياة السياسية الإسرائيلية للأحزاب بغض النظر عن تصوراتها السياسية-الأيديولوجية، ومن تمثل في كعكة المجتمع الإسرائيلي، خلقَ أجواء مشحونة وتوترات سياسية داخلية أفضت إلى وقائع سياسية وانشقاقات وتحورات وتحولات ثمة حاجة إلى دراستها بعمق لفهم مآلات هذه الحالة. ولا أبالغ إذا قلت إنَّ القضية الفلسطينية هي مقبرة الأحزاب الإسرائيلية عمومًا- انظر إلى مآلات حزب العمل ربان أوسلو- والأحزاب المتشددة خصوصًا، وبيان لذلك ما يحدث راهنًا مع اليمين الديني الصهيوني وتراجعاته المستمرة في الموقف من القضية الفلسطينية- أطرحها كمصطلح يخص كل ما يتعلق بالفلسطيني إنسانًا ووطنًا راهنًا ومستقبلًا- ولعل تراجع بن غفير وسموطريتش عن مواقفهما المتصلبة من الخان الأحمر، بعض لبيان ما أذكر، مقابل البرجماتية السياسية لنتنياهو وحزبه على الرغم من تطرفه الأيديولوجي والسياسي اتجاه الشعب الفلسطيني وعموم الأمتين العربية والإسلامية.