صيحات جيلانية (2) حول عدم فهم القدر
الشيخ رائد صلاح
متابعة للمقالة السابقة من ضمن هذه السلسلة (صيحات جيلانية) أؤكد أنَّ الإمام عبد القادر الجيلاني عاصر أُمَّة إسلامية منهارة عانت من الانحطاط، ومن تلهي رعاتها ولهو رعيتها وغفلة علمائها، وتداعت عليها الأمم الصليبية من وراء البحار وسلبت منها القدس المباركة وارتكبت مجزرة في المسجد الأقصى راح ضحيتها أكثر من سبعين ألفا من العُبّاد والنّساء والأطفال، وفوق ذلك أحال زحف الصليبيين قبة الصخرة إلى كنيسة ونصبوا عليها الصليب، وأحال الجامع القبلي في المسجد الأقصى إلى فندق لفرسان أوروبا، وأحال المصلى المرواني إلى إسطبل للخيول، فأصبح حال الأمة الإسلامية كما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا)، وكان لا بد من صيحة محرقة تلذع الأمة الإسلامية وتوقظ النائم فيها وتُنبّه الغافل فكانت صيحات الإمام الجيلاني التي كشف فيها عن أسباب الانحطاط التي اجتمعت على الأُمّة الإسلامية وعن سبل العلاج. وقد تحدثت في المقالة السابقة عن واحد من هذه الأسباب وهو سوء حال العلماء، وأمَّا سائر هذه الأسباب التي أشار إليها الإمام الجيلاني في كتابه (الفتح الرباني) فهي كما يلي:
1- عدم فهم القدر:
يؤكد الإمام الجيلاني أنَّ ما وقع على الأمة الإسلامية هو قدر من الله تعالى، وقد وقع عليها هذا القدر الذي كان ثقيلا عليها وفق المواصفات التي كانت عليها، ولذلك فإنَّ مدافعة هذا القدر لا تقف عند حد الاعتراض عليه، بل لا بد من أن تغير الأمة الإسلامية ما بأنفسها من مواصفات القدر الثقيل الذي نزل عليها وأن تتحلى بمواصفات القدر الذي تطمع به، فالنصر قدر، والهزيمة قدر، ويوم أن احتل الصليبيون القدس والمسجد الأقصى والأرض المباركة وتوغلوا في الشام وباتوا على أبواب مصر والجزيرة والعراق، فهذا يعني أنَّ قدر الهزيمة قد وقع على الأمة الإسلامية لأنها كانت تحمل مواصفات قدر الهزيمة، وإذا أرادت مدافعة قدر الهزيمة والانتصار على الصليبيين فلا بد أن تتخلص من مواصفات قدر الهزيمة وأن تتحلى بمواصفات قدر النصر، وعندها فقط سيرتفع عنها قدر الهزيمة، وسينزل عليها قدر النّصر، وعندها ستنتصر على الصليبيين، وعندها ستحرر القدس والمسجد الأقصى المباركان وسائر الأرض المباركة من الصليبيين، وكل ذلك يحتاج منها تغيير ما بأنفسها، فإن هي صدقت بتغيير ما بأنفسها، فهذا يعني أنها تخلصت من مواصفات قدر الهزيمة وتحققت بمواصفات قدر النصر، فإنَّ الاكتفاء بالاعتراض على قدر الهزيمة، ومواصلة التحلي بمواصفات قدر الهزيمة هو تكريس للهزيمة، وحول ذلك يقول الإمام الجيلاني في كتاب (الفتح الرباني):
* (الاعتراض على الحق عز وجل عند نزول الأقدار موت الدين، موت التوحيد، موت التوكل والإخلاص. والقلب المؤمن لا يعرف لم؟ وكيف لا يعرف، بل يقول بلى، النفس كلها مخالفة منازعة، فمن أراد صلاحها، فليجاهدها حتى يأمن شرها، كلها شر في شر، فإذا جوهدت واطمأنت صارت كلها خيرا في خير، تصير موافقة في جميع الطاعات، وفي ترك جميع المعاصي، فحينئذ يقال لها: (يا أيتها النفس المطمئنة (27) ارجعي إلى ربك راضية مرضية (28). الفجر.
* (لا تجعل القدر عذرا لنفسك، فإنّها تحتج به وتترك العمل، العذر بالقدر حجة الكسالى، إنّما يكون العذر بالقدر في غير الأوامر والنواهي).
وما أشبه ما نحن عليه اليوم بما كانت عليه الأُمّة الإسلامية على عهد الإمام الجيلاني، فبتنا اليوم كما كانت عليه الأمة الإسلامية بالأمس، نكتفي ببعض مظاهر الدين، ونقف عندها، ونظن أننا بذلك قد أقمنا دعائم المشروع الإسلامي!! وكم نحن مخطئون في ذلك وواهمون وغافلون! وكم نخدع أنفسنا (ونحن نُعرِّف أنفسنا أننا من أبناء المشروع الإسلامي) عندما نكتفي في مسيرتنا عند حد القيام بمظاهر العبادة كالصلاة والصوم والحج والزكاة والصدقة؟! أو عند حد إلقاء خطب الجمعة والدروس في المساجد؟! أو عند حد القيام بحملات الإغاثة ثمَّ إغاثة اللاجئين من أمتنا الإسلامية وعالمنا العربي وشعبنا الفلسطيني؟! أو عند حد كتابة المقالات ونشر التغريدات في بعض مواقع التواصل؟! أو عند حد قراءة القرآن ومواصلة الذكر والمثابرة على الدعاء؟! فكل ذلك مهم جدا وهو من صلب الدين أو عمود الدين أو من أركانه، ولكن لنعلم أنَّ كل ذلك يهدف من ضمن ما يهدف إلى إحياء القوة الروحية فينا، وإذا ما حيت فينا هذه القوة الروحية، فإنها ستولد فينا الهمة، وإذا ما تولدت فينا الهمة فستتولد فينا إرادة التغيير، وإذا ما تولدت فينا إرادة التغيير، فسندرك فورا أن من أوجب الواجبات التي يمليها علينا المشروع الإسلامي هي حمل هموم أهلنا كل أهلنا، والسعي إلى تفريج كربهم، وعلاج أوجاعهم، وتصويب خط انحرافهم، وتقويم ما ولغوا فيه من اعوجاج وعنف وسوق سوداء وربا أسود واستباحة الخاوة والإتجار بالسلاح الأعمى والممنوعات المدمرة، وإسنادهم لتغيير ما بأنفسهم، وإلا فإنَّ الإهمال المعيب في أداء كل هذا الواجبات يعني أنَّ أبناء المشروع الإسلامي لا يفهون القدر، ولا يزالون يظنون أننا في طريق مسدود بات من المحال تجاوزه، وأننا لا نملك أكثر من الدعاء وإلقاء المواعظ في المساجد وبيوت العزاء، وأننا معذورون لأن الكف لا تلاطم المخرز، وفي ذلك (موت الدين والتوحيد والتوكل والإخلاص)، كما أشار إلى ذلك الإمام الجيلاني!! ولذلك لا بد مما لا منه بد:
1- لا بد أن نحسن فهم القدر.
2- لا بد أن ندرك بوعي أنَّ صدقنا في حفاظنا على القيام بمظاهر العبادة وملازمتنا لقراءة القرآن والذكر والدعاء سيولد فينا طاقة روحية لا يجوز أن تبقى مهملة وكأنها غير متوفرة في داخلنا.
3- لا بد أن تولّد فينا هذه الطاقة الروحية طاقة الهمّة ثم أن تولد فينا طاقة الهمة طاقة إرادة التغيير، ثمَّ ان تدفعنا طاقة إرادة التغيير إلى احتضان كل مجتمعنا بهمومه وكلومه ومآزقه وآلامه ونقله إلى بر الإيمان والأمن والسكينة والطمأنينة.
4- لا بد أن نعين مجتمعنا على فهم القدر، وعلى التعرف على ما هو عليه مجتمعنا من سوء الحال، وعلى تغيير ما بأنفسه.
5- لنتذكر قول الله تعالى: (يا أيها المزمل (1) قدم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4) إنّا سنلقي عليك قولا ثقيلا (5). المزمل. فقيام الليل وترتيل القرآن هو إعداد سلفا لحمل القول الثقيل، وهذا يعني عدم الوقوف عند حد قيام الليل وترتيل القرآن وإلا فمن يحمل القول الثقيل.
6- فيا أبناء المشروع الإسلامي لا تقفوا عند حد مظاهر العبادة ومظاهر العلم وقيام الليل وترتيل القرآن، بل أنتم مطالبون لحمل مجتمعكم الذي هو الحمل الثقيل الذي يجب أن تحملوه.
7- وإلا فإنكم ستكتبون على أنفسكم وعلى مشروعكم الإسلامي الجمود… (يتبع).