حالة طوارئ
ليلى غليون
عندما نتحدث بلغة التجارة ومفرداتها من ربح وخسارة يتبادر إلى الأذهان فورًا التجارة الدنيوية وما تتضمن من أرباح وخسارة مالية أو عينية، ولكن هناك تجارة حطمت كل هذه المقاييس، فهي لا تعرف إلا الأرباح الطائلة والنتائج المثمرة الخيرة، إنها التجارة مع الله جل وعلا، تلك التجارة الرابحة المضمونة التي لن تبور، وإن كان تجار الدنيا كثيرين، فالحمد لله فإن تجار الآخرة ليسوا بقليلين ممن يتسابقون إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
ونحن في هذه الأيام العظيمة من أيام الله والتي يوشك فيها رمضان الخير والإحسان على الرحيل مودعًا، ولا ندري هل يعود في العام المقبل ونحن ندب فوق الأرض أم نكون في جوفها، ولا ندري هل حصادنا سنابل صفراء أم الهباء المنثور والعياذ بالله، ولا ندري هل ربح البيع أم هو الخسران. نسأله تعالى بأسمائه العظمى أن يكون بيعنا وتجارتنا في هذا الشهر الفضيل بيعًا وتجارة رابحة، وأن يتقبل منا صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا ويتجاوز عن زلاتنا وسيئاتنا إنه سميع مجيب.
ونحن على أعتاب يوم العيد، يوم الجائزة التي منحها الله تعالى لعباده الذين استجابوا لنداء الحق بصيام شهر رمضان، فقالوا سمعنا وأطعنا، فكان جزاؤهم هذه المنحة الربانية وهي يوم العيد، يوم يفرح فيه المسلمون وتتآلف قلوبهم وتتآخى أرواحهم، يوم يشعر فيه المسلمون بلذة ونشوة النصر على أنفسهم وشهواتها طيلة ثلاثين يومًا مضت في جهاد النفس وأهوائها، لذا كان لا بد من بعض اللفتات في هذه المحطة الأخيرة من المحطات الرمضانية نذكرها ونذكِّر فيها أنفسنا وإخوتنا وأخواتنا لعل وعسى أن نعبر هذه المحطة بأمان وسلام، فلا نكون كتلك المرأة التي نقضت غزل صوفها بعد أن تعبت في غزله كما يقول رب العزة: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا تتخذون أيمانكم دخلًا بينكم …}، (سورة النحل- آية 29).
حالة طوارئ في البيوت
فها نحن نعيش العشر الأواخر من رمضان والتي تحمل بشرى العتق من النار، والمفروض أن نكون فيها أكثر قربى وصلة مع الله تعالى وتسابق وتنافس على الخيرات خصوصًا إحياء ليلة القدر والتي هي خير من ألف شهر، فبدلًا من انتهاز هذه الفرصة الكبيرة للتجارة مع الله من زيادة في العبادة وانقطاع عن شواغل الحياة، نرى أن هناك بعض المشاهد والصور والتي تتجلى تحديدًا في الأيام الأخيرة من رمضان لتفوّت على الكثيرين الأجر والثواب الجزيل، ومن هذه الصور أن معظم ربات البيوت يعلنَّ عن حملات تنظيف واسعة النطاق قبيل العيد بالذات، فتكون البيوت في حالة طوارئ لعدة أيام لا تترك فيها ربات البيوت زاوية صغيرة ولا كبيرة إلا وتنقلب رأسا على عقب من أجل تنظيفها حتى ولو كانت نظيفة، وبعض من النساء من تؤجل التنظيف العام للبيت إلى ما قبل العيد، ونحن نقول إن النظافة جميلة ومطلوبة وواجبة بل هي عبادة وفي كل الأوقات، فلماذا تُشن هذه الحملة من النظافة وهذا الهجوم المبالغ فيه في هذه الأيام الأخيرة من رمضان بالذات؟ وماذا يحصل لو كانت هذه الحملة قبل رمضان؟ بل وما الذي سيحصل لو تأجلت إلى ما بعد رمضان؟!
حالة طوارئ في الأسواق
وهناك صورة أخرى من حالات الطوارئ التي تظهر جليًا في الأيام الأخيرة لهذا الشهر الفضيل، وهي اكتساح محلات بيع الملابس لشراء ملابس ولوازم العيد، فالمحلات في هذه الأيام مكتظة بالنساء والأطفال، وحتى الرجال يقضون الساعات الطويلة في التجول بين معروضات البيع لانتقاء ما يتناسب مع أذواق الأبناء الذين في غالب الأحيان تكون أذواقهم صعبة ولا يعجبهم شيء، مما يضطر الأهل للذهاب إلى عدة محلات أو الرجوع إلى المحلات عدة مرات في سبيل إرضاء أذواق أبنائهم، وفي بعض الأحيان يسافرون إلى المجمعات التجارية في المدن اليهودية بحجة أن ابناءهم” ما يعجبهم العجب”، أو ربما بسبب الوجاهة الاجتماعية!! فإن البعض يفضل اقتناء حاجياته من هذه المجمعات، والسؤال المطروح: لماذا لا يشتري الأهل كل حاجاتهم وحاجيات أبنائهم قبل رمضان أو في بداية رمضان فيجنبوا أنفسهم الكثير من المشقة والضغط فضلًا عن استثمارهم أوقاتًا ثمينة يقضونها في العبادة والقرب من الله تعالى؟!
حالة طوارئ ليلة العيد
انها صورة تعود على نفسها لتعيد نفس المشاهد والسلوكيات، فما أن تعلن المآذن قدوم العيد حتى يتأهب الجميع في ليلة العيد من شباب وفتيات وأطفال ونساء ورجال بالتجوال في الشوارع زرافات زرافات والتجمع في الأزقة وأمام الحوانيت وفي الطرقات، بالإضافة لأزمة الازدحام الخانقة للسيارات التي تصدر منها الموسيقى الصاخبة والزمامير المزعجة هذا عدا عن أصوات المفرقعات والألعاب النارية التي سببت الكثير من الأضرار الجسيمة، ناهيك عما نراه في هذه الليلة من مظاهر السفور والتبرج والاختلاط والمعاكسات من بعض الشباب.
إن كل هذا ليس من إسلامنا العظيم، وأن على المسلم أن يظهر فرحة ابتهاجه بالعيد، ولكن الفرح والابتهاج لا يتحقق بمعصية الله تعالى، فلنجعل ليلة العيد حجة لنا لا علينا وذلك بالتزود بخير الزاد (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى).
يوم الجائزة
إنّه يوم العيد الذي يعيشه البعض بمفهومه الخاطئ، فيطلق الواحد منهم لنفسه عنان الشهوات ليمضي أيامه ولياليه باللهو والعبث وما يغضب الله عز وجل، وهناك من ينظر الى العيد بمنظاره الضيق فيراه في جديد اللباس وما لذ من الطعام والشراب أو في السفر لخارج البلاد، أو التحرر من التزامات وضوابط عاشها وحافظ عليها طيلة شهر كامل وكأنه لا يعرف الله إلا في رمضان، فهناك من لا يسجد لله سجدة واحدة إلا في رمضان ولا يقرأ آية في كتاب الله إلا في رمضان، فأي عيد هذا الذي لا نلبس فيه ثياب الطاعة والتوبة مع جديد الثياب؟! وهل يسترنا ويجملنا لبس الجديد إذا خلعنا لباس الطاعة لله؟
إنَّ العيد بمفهومه الحقيقي هو اليوم الذي لا نعصي الله فيه ولا ننتهك حرماته، ألا ليت أيامنا كلها عيد بهذا المفهوم العظيم، حيث تمتزج الفرحة بالطاعة، تتصافح الأيادي والقلوب والأرواح يغمرها الخير والحب ومشاعر الأخوة وتغلق كل الأبواب التي تدعو إلى القطيعة والبغضاء، فعندما تتصافح الأيادي وتتعانق الأرواح تتجلى صورة رائعة للمجتمع المسلم بتضامنه وتكافله ووحدته. تقبل الله منا ومنكم الطاعات وكل عام وأنتم إلى الله أقرب.