خطاب نتنياهو، الحرس الوطني.. ومقتل العصيبي وما بينهما
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
لم يتفاجأ المتابع للشأن الإسرائيلي من خطاب نتنياهو الذي جاء بعد أحداث عصفت بالمجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني، وأحداث المسجد الأقصى والاعتداءات الموثقة على المصلين داخل المسجد والجريمة النكراء بحق الطبيب النقباوي محمد خالد العصيبي وقتله بدم بارد. لاقت الاعتداءات على المصلين انتقادات دولية وقدرت تقارير أمنية أن الشارع العربي والمسلم، بات ساخنًا إلى درجة الغليان، وفي السياق ذاته لاقت جرائمهم في المسجد وباحاته انتقادات واسعة من أقرب المقربين من المؤسسة الإسرائيلية، أدَّت إلى اعترافات من أعلى المستويات السياسية، كاشفة عن حجم الأضرار التي لحقت بإسرائيل دولة ونظامًا وهيئات.
قرار نتنياهو بمنع اليهود من اقتحامات المسجد ابتداء من الثلاثاء المنصرمة (21 رمضان)، جاءت بعد توصيات الأجهزة الأمنية رافضًا بذلك مطالب بن غفير بالسماح لهم باستمرار الاقتحامات، علمًا أن ثمة اتفاقية وقع عليها نتنياهو كشرط من شروط تشكيل الحكومة، لكنَّ التجربة والواقع السياسي والردة التي تعتور المجتمع الإسرائيلي وحالتي تراجع مستويات الشعور بالأمن الشخصي والوطني من جهة، وفقدان متواصل للحصانة الوطنية والقومية، دفعت نتنياهو لمراجعة الحسابات على قاعدة “مرغم أخاك لا بطل”.
جاء خطاب نتنياهو مليئًا بالتحريض والافتئات على الفلسطينيين، كما تعرض للمعارضة في حملة كذب ودجل كشفت عوار نتنياهو وحجم الحسابات الداخلية التي جعلته محل تندر في الإعلام الإسرائيلي، خاصة بعد تدهور الحالة الأمنية التي حذر منها جالنت قبيل إقالته التي عاد عنها مؤخرًا نتنياهو ليصل حدًا أدنى من النواب في حالة حدوث انتخابات جديدة، وموجهًا كلمته لقاعدته الشعبية التي تآكلت بشكل كبير خلال مئة يوم من تشكيله حكومة يمينية مسيانية.
نتنياهو إذ يرى كمّ الخسارات
أدرك نتنياهو بعد تحذيرات رجال الأمن والجيش من احتماليات انتفاضة ثالثة، ستدفع نحو خلل بنيوي واستراتيجي في المنطقة أمنيًا وعسكريًا في ظل تشدد بن غفير وسموطريتش والإحراجات المتتالية لمن شارك في قمتي العقبة وشرم الشيخ واستحالة المسجد الأقصى إلى الشرارة التي ستفجر المنطقة برمتها، ويعيد الاعتبار إلى محور المقاومة بعدئذ خسر خسرانًا مبينًا في العقلية السنية عمومًا ونخبها خصوصًا بعد الجرائم التي ارتكبت في سوريا والعراق واليمن، ومعنى هذا استمرار نتنياهو في مراكمة الخسائر، فما بنته أجهزة الأمن من تحقيق للعلاقات مع المحيط العربي، وكان فيها الموقع الأخير العلني عن هذه العلاقات وإخراجها من دور السر إلى العلن، إذا به يهدم مداميكها مدماكًا تلو الآخر، وإذا به يشدُ عضد المقاومة الفلسطينية ويعيد الاعتبار إلى القاموس السياسي والمقاوم بعدئذ عملت أجهزته الأمنية عملًا كبيرًا لتنشئة حبل مفصول عن واقعه المعاش، ليعيد فقه وفكر المقاومة وينمي المعاني الضاربة في المقاومة الشعبية.
في ذات السياق اتخذ اليسار الإسرائيلي والتيارات العلمانية موقفًا واضحًا مناهضًا لنتنياهو وابنه وسعيه ومن يواليه لتغيير القضاء، وصار واضحًا أن المجتمع الإسرائيلي بات مجتمعين متشظيين، وسيحسب لنتنياهو مقدرته الفائقة على تفكيك المجتمع الإسرائيلي، وأنه أول من وضع مسمارًا في نعش المجتمع والمؤسسة والدولة.
لم تخرج المؤسسة الإسرائيلية من شرنقاتها الاحتلالية ولا من وطأة المؤامرة التي تعتقد أنه يُحاك لها، ولا من القتل بدم بارد للفلسطينيين، لاستشعارها الدائم أنها ما قامت وصار لها وجود إلا على حساب هذا الشعب الذي تمّت المؤامرة عليه دوليًا وإقليميًا، واستحالت قضيته إلى الخبز الذي عاشت عليه أنظمة الاستبداد العربي وعديد الفصائل الفلسطينية.
ثمّة تراجيديا متناقضة أخلاقيًا في القضية الفلسطينية وعلاقاتها مع محيطها العربي وحتى الفلسطيني الفصائلي، باعتبار أن وجود قضية فلسطينية يعني أننا أمام أطراف معادلة قائمة على المقاومة، مقاومة الاحتلال ونزع شرعيته بالمطلق مدنيًا وسلميًا ومقاومةً، لكن الواقعين السياسي والمجتمعي، يذهبان إلى أنَّ المحيط العربي والفصائلي، ليس على إطلاقه، يعملان على استحمار القضية الفلسطينية وجعلها تكئة لبقاء تلكم الأنظمة واستعباد شعوبها باسم قضية مقدسة.
الملفت للنظر، أنَّ مراجعات تاريخية لجدل هذه العلاقة، يكشف عن خطوط مبكرة بين الأطراف التي ذكرت والاحتلال، توجت بأنواع مختلفة من التطبيع والسلام.
في السياق الفلسطيني، ثمة فصائل ارتهنت مطلقًا وراهن بعضها على أنظمة شمولية فاسدة وشارك في مجازر ضد أبناء شعبه تحت مسميات مختلفة ليس أقلها المقاومة، مقاومة الاحتلال وكان تحرير القدس والمسجد الأقصى شعارها.
القلق الإسرائيلي
كلّما تقدم الزمن بعمر الكيان الإسرائيلي كلما جرت مياه في نهر العلاقة وجدلها مع الفلسطيني إنسانًا وحضارةً، وهذا الجدل تتضح أبعاده في فضاءات ثلاثة: الوجود وتعزيزه، الشرعية وتثبيتها، الاندماج والعمل عليه. وهذه الفضاءات الثلاثة مرتبطة فيما بينها عضويًا، ذلكم أن الكيان لمّا يخرج بعد من شرنقة الوجود وتثبيته، فمسألة سرقة أرض وإحالتها إلى وطن، وطرد سكانها منها ضمن منطق إحلالي مسياني ديني وعلماني، لا يمنح هذا السارق حق وجود ولا إثباته، خاصة وأن صاحب الأرض ما زال مقاومًا رافضًا رغم كافة سياسات التدجين التي ما زالت تُمارس عليه.
في العقود الثلاثة الأخيرة، ثمة أربع ملاحظات في ارتفاع مضطرد في سياقات العلاقة الآنفة الذكر: الاستمرار في المواجهة مع الكل الفلسطيني، تطور أدوات الرصد لدى الجانبين الفلسطيني المقاوم والاحتلال الإسرائيلي، الاستعانة بالخارج سواء كان هذا الخارج إقليميًا أو دوليًا وسواء كان مدنيًا يتبع مؤسسات المجتمع المدني أو منظومات وجماعات أيديولوجية، واستعمال أدوات التواصل بكثافة مركزة لتحصيل أكبر من الممكن من الدعم في فضاءات التواصل والاضاءات المجتمعية.
هذه المواجهة سافرة ومُشرعة على كل الوجود الفلسطيني، والقتل اليومي في جوهره جزءٌ من سياسات الكيان وبيانٌ لمعنى الوجود بشكله المعاكس، إذ المعادلة إما وجود خالٍ من مُطالب بوطن، أو استمرار المواجهة حتى إخضاعه بالمطلق. وفي هذا السياق تحديدًا شكَّلت حرب عام 2021 المعروفة بسيف القدس فرصة لليمين الحاكم للعمل على إنشاء الحرس الوطني كعبرة من عبرات هذه الحرب خاصة ما تعلق في محايثات العلاقة مع الداخل الفلسطيني، وهذه المجموعة هي التي ستشكل رأس الحربة لمواجهة فلسطينيي الداخل برسم أنها مليشيا مكونة من المستوطنين الغلاة والفاشيين، وفي السياق الإسرائيلي ثمة موافقة على تكوين هذه المليشيات المسماة بالحرس الوطني شرط أن تكون تحت ولاية قائد الشرطة وليس الوزير أيًا كان هذا الوزير.
تحصّلت هذه الاطروحة على موافقة ومباركة الحاخامات وقد اختطفها بن غفير راكبًا عليها في دعايته الانتخابية ليكون التصويت له جارفًا ومتجاوزًا للقطاعات الإسرائيلية بعد أن طرح مسائل الحكم في الجليل والنقب والأمن المواطني لليهود في حملته الانتخابية، وكل تعليقات وتحفظات اليسار والجهات الرسمية بما في ذلك اعتراض المستشارة القضائية، سيتم عاجلًا أم آجلًا تجاوزه.
ولذلك رأينا بن غفير يتحدث عن تعويم الفكرة وأنها يمكن أن تكون تحت أي لافتة أمنية أو شرطية، ودعا اليسار والكيبوتسات للانضمام إلى هذه الوحدة التي ستكون لاحقًا كشبيهاتها في النُظُم الفاشية (المانيا، إيطاليا، صربيا والهند حاليًا)، دفعًا نحو تعميق الفكرتين القومية بكل خلفياتها الدينية والوطنية والعصبية، ويمكن لهذا الطرح أن يشكل لاحقًا معلمًا آخر من معالم الهوية المتبلورة يهوديًا وقاسمًا مُشتركًا بين كافة المجموعات اليهودية، كما يمكن أن استفراد اليمين بهذه الوحدة/ المليشيا/ الحرس الوطني، في حالة رفض اليسار الانضمام والتفاعل مع دعوة بن غفير، أن يكون العصا التي ستوجه قبالة اليسار والعلمانيين ومن يعارضهم من اليهود أيًا كانت خلفيتهم الأيديولوجية والسياسية وتدينهم مستقبلًا ضمن العقلية الشعبوية التي تتحكم بإيقاعات السياسة الإسرائيلية الداخلية.