سلاح الروايات المضللة في معركة الصراع الوجودي
ساهر غزاوي
في سياق تلفيق الأكاذيب والروايات المضللة وتناقضها حول ظروف استشهاد يوسف أبو جابر من مدينة كفر قاسم من جراء “عملية دهس” مزعومة نُفذت في تل أبيب، مساء الجمعة الماضي (7/4/2023)، وحول ظروف استشهاد الطبيب محمد العصيبي على يد جنود الاحتلال قبل فجر يوم السبت (1/4/2023)، عند أبواب المسجد الأقصى المبارك، نذكر أسلوب تحويل الضحية إلى مجرم، فهذا الأسلوب استخدمته ولا تزال الدعاية الصهيونية والإعلام الإسرائيلي الموجه بحرفية عالية، والتي تعمد على التشكيك بمقتل بعض الفلسطينيين على أيدي الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والمستوطنين.
أسلوب تلفيق الأكاذيب وتشويه الحقائق عبر الروايات المضللة يدخل في صلب الممارسات السياسية والميدانية الإسرائيلية، ويتم بالافتراء على الضحية عبر اتهامها بأنها سبب الجريمة التي استحقها، ويحضرنا في الإطار، المقولة الشهيرة لرئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة، غولدا مائير، حين قالت: “لن أسامح الفلسطينيين، لأنهم يجبرون جنودنا على قتلهم”، فالفلسطيني بنظرهم يبقى مدانًا وحتى لو ثبتت براءته!
لذا، فلا غرابة أن تعمل الدعاية الصهيونية والإعلام الإسرائيلي على تحويل الفلسطيني إلى معتد، مقابل تحويل المجرم الحقيقي إلى معتدى عليه، فقد نشرت صحيفة “هآرتس” العبرية قبل سنوات قصة فلسطيني ذهب لتقديم شكوى بسبب الاعتداء عليه، لكنه اكتشف أن هناك أمرًا باعتقاله، وهذه طريقة ناجعة لمنع الفلسطينيين من مواجهة المستوطنين الذين يقومون بالاعتداء عليهم- كما تعلق الصحيفة-، وهذا ما ينطبق تمامًا على المثل الشعبي الذي يدل على الظلم ويضرب للشخص الذي يتعدى على غيره، ثم يدعي بأنه المجني عليه “ضربني وبكى وسبقني واشتكى”.
فرغم أن الشبهات تحوم حول الروايات الإسرائيلية المضللة حول ظروف استشهاد الطبيب محمد العصيبي ويوسف أبو جابر، إلا أنّ ماكينة التحريض الإعلامي الإسرائيلية ما زالت تُصر على روايتها المضللة التي تسارع إلى تجريم العربي الفلسطيني مباشرة وتحويله من مُعتدى عليه إلى مُعتدي، ولا زالت معظم وسائل الإعلام العبري- إلا ما ندر منها- تصف الشهيدين المعتدى عليهما بـ “المخربين الذين ينفذون عمليات على خلفية أمنية قومية”، كما تزعم رواياتهم المضللة.
فانطلاقًا من مبدأ “من أفواههم ندينهم”، فقد تمَّ تكذيب رواية الشرطة الإسرائيلية نفسها حول ظروف استشهاد الطبيب محمد العصيبي الذي أعدم ميدانيًا، فهذا قائد سابق في الشرطة الإسرائيلية يقول إنه لا يعقل ألا يكون هناك كاميرات مراقبة وثقت ما حدث قرب المسجد الأقصى وأنا بنفسي أقمت شبكة توثيق الكاميرات في هذا المكان خلال فترة عملي!! وتأكيدًا على أقوال هذا الضابط، فإن صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية نشرت صورة تظهر وجود 4 كاميرات مراقبة عند باب السلسلة وهو المكان الذي جرى إطلاق النار على العصيبي فيه، وهذا ما يفنّد ويدحض روايات الشرطة الإسرائيلية المضللة ويدعم رواية شهود العيان التي تؤكد أن الشهيد العصيبي حاول الدفاع عن فتاة اعتدت عليها قوات الاحتلال في الأقصى ولم ينفذ عملية.
وحول ظروف استشهاد يوسف أبو جابر، فإن رواية الشرطة الإسرائيلية تناقض نفسها، ولا تزال تُصر على روايتها أن ما حدث مع أبو جابر في تل أبيب كانت عملية مدبرة وليس حادثًا عرضيًا، علمًا أن ماكينة التحريض الإعلامي الإسرائيلية سارعت مباشرة إلى حسم المسألة أنها “عملية دهس” دون أن تتثبت من الحقيقة، وقد كشف بيانان صدرا عن الشرطة تناقضًا كبيرًا، إذ زعم الأول أن سلاحًا كان بحوزة أبو جابر، فيما أكد آخر أن ما زُعم أنه سلاح، لم يكن كذلك، في حين أشار التحقيق الأولي إلى أن الشهيد كان بحوزته “سلاح لعبة بلاستيكي”، هذا عدا أن السيارة التي استقلها يوسف أبو جابر تعود إلى زوجته وليست مسروقة كما ادّعت معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية في البداية.
خلاصة القول، فإن أسلوب تحويل الضحية إلى مجرم عبر تلفيق الأكاذيب والروايات المضللة، هو أسلوب استخدمته ولا تزال الدعاية الصهيونية والإعلام الإسرائيلي حتى يدعم عملية تزييف الحقائق وتبرير أعمال الاحتلال في هذا الصراع الذي في حقيقته صراع وجودي (صراع الافناء الصفري) الذي لا يتقبل كلا الطرفين وجود الآخر إطلاقا ويسعى إلى انهائه تمامًا، والخروج بفوز نهائي ساحق كامل، وهو ما يؤكد رغبة الصهيونية في التطهير العرقي للفلسطينيين ومحو هويتهم وتاريخهم من هذه البلاد.
وإذا كانت لا تزال الدعاية الصهيونية تحاول فبركة الصورة الحقيقة وتزيف الحقائق التاريخية، وفي المقابل تحاول إظهار الصورة الداعمة للرواية الصهيونية، وقد نجحت في الترويج لسرديتها بالاعتماد على آلة دعائية كبيرة وقوية ترتكز على أن إسرائيل دولة تتجند بالكامل لنشر فكرة ما، وتسخر كل ما هو عسكري، سياسي، أمني، وقضائي للضخ الإعلامي ولترويج لفكرة تخدم روايتها الخاصة بصراعها الوجودي مع الفلسطينيين، فكيف يمكن لنا أن نثق بالروايات الإسرائيلية المضللة التي تسارع إلى تجريم العربي الفلسطيني وتحويله من مُعتدى عليه إلى مُعتدي في ظروف مثل ظروف استشهاد الطبيب محمد العصيبي ويوسف أبو جابر؟؟ وما الروايات المضللة في قضية الشهيد يعقوب أبو القيعان، وقضية الشهيد خير الدين حمدان، وقضية الشهيد مصطفى يونس وغيرهم من ضحايا جرائم “الإعدام الميداني” عنا ببعيد.