لحساب من نُبدّد ثرواتنا؟
ليلى غليون
نسمع بين الحين والآخر ويتملكنا العجب مما نسمع، أن إحدى الدول ألقت بفائض إنتاجها من قمح أو بن وغيره من المنتوجات، في البحر طعامًا للأسماك والحيتان، وتحرم منه الإنسان، ونتساءل بكل أسى ومرارة ونقول لم لا يُستغل هذا الفائض ويُستثمر لإنقاذ ملايين الأفواه الجائعة في العالم والتي تنتظر ولو كسرة من خبز تسد رمقها وتطفئ لهيب جوعها، لتأتينا الإجابة عن تساؤلنا والتي تقرع آذاننا والتي لا أراها إلا صفعة في وجه الانسانية، بل طعنة في قلب الضمير الإنساني الحر، بأن الدولة التي تقوم بإلقاء فائض إنتاجها في البحر أنها تفعل ذلك للمحافظة على ثرواتها واقتصادها بكل وسيلة حتى ولو كانت هذه الوسيلة على حساب عمر وحياة الإنسان، وحسب هذا المنطق الأعوج، فلا بأس أن يموت ملايين الأطفال كل عام جوعًا أو من سوء التغذية، ولا بأس أن يظل غول المجاعة يهدد الشعوب الفقيرة ما دام ذلك سيقوي ويدعم الاقتصاد القومي للدول.
وإن كنّا نستهجن ونستنكر هذه السياسة الاقتصادية التي تترجم الانحدار المادي المخيف الذي وصلت إليه تلك الأمم والتي تراجعت عندها القيم الانسانية، لتعتبر المحافظة على الثروة والمادة أهم من المحافظة على حياة الإنسان، فإن استهجاننا أكبر واستنكارنا أشد للعديد من التصرفات والسلوكيات التي نمتهنها نحن وبصورة يومية وبشكل عادي ولا نلقي لها بالًا، بل وتجدنا نمارس نفس السياسة التي تقوم بها تلك الدول التي تلقي بفائض إنتاجها في البحر، إلا أن الفرق الوحيد بيننا وبينها أننا نلقي بهذا الفائض في صناديق القمامة، فآلاف من أرغفة الخبز وكميات كبيرة من الطعام على أنواعه تذهب كل يوم إلى حاوية الزبالة!! خاصة في المناسبات من أعراس وولائم وأعياد ميلاد وحتى ضيافة عادية يقوم بها بعضنا البعض، وما يحدث في رمضان فحدث ولا حرج وهذا الكلام ليس جزافًا ولا تكلفًا، بل حقيقة مؤلمة تؤكدها معظم الحاويات المتواجدة على جوانب بيوتنا.
فأي تفسير وأي معنى لإلقاء لقمة صالحة للأكل في هذه الحاويات؟ وما عذر ربات البيوت في هذا الأمر؟ وأي جيل سننشئ وهم يروننا نغفل ونتهاون في نعمة من نعم الله علينا وأفقدتنا الغفلة بالشعور بأهميتها (هذا عدا عن أكوام الملابس الجميلة والصالحة والتي لم يمض على شرائها إلا أشهر معدودة نرميها لاستبدالها بالجديد، بالإضافة إلى قطع الأثاث الأنيقة التي نستغني عنها لا لأنها أصبحت غير صالحة، بل لاستبدالها بكل حديث نزل واكتسح السوق..) فإن كان عذر تلك الدول (وهو عذر أقبح من ذنب) المحافظة على قوة الاقتصاد، فما عذرنا نحن ولحساب من نبدد ثروتنا باختيارنا بأيدينا خصوصًا والأغلبية العظمى منا تعيش أوضاعًا اقتصادية صعبة وظروفًا معيشية قاسية، الأمر الذي يتطلب منا أن نفكر ألف مرة بالمال كيف نحافظ عليه، وكيف نصرفه وأين.
فأين نحن من توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب والذي يقول: “إذا أكل أحدكم طعامًا فسقطت لقمته فليمط ما كان بها من أذى، ثم ليطعمها ولا يدعها للشيطان”، لأن المسلم مطالب بالحفاظ على اللقمة شريطة الحفاظ على قواعد الصحة والنظافة، فهذه اللقمة تذكير بنعمة الله، وطعم النعمة في الأمر الصغير كطعمها في الأمر الكبير ما دام المسلم يستشعر عظمة المنعم لا حجم النعمة، واللقمة التي نرميها عبثًا تلقى لحساب الشيطان كما جاء بالحديث الشريف، فكيف نقبل وكيف نرضى أن يزداد رصيد الشيطان ويدعم حسابه على حساب إفلاسنا نحن وضعف رصيدنا!!!
بل أين نحن من وصايا رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو ينبّهنا أن نلعق أصابعنا بعد الأكل لا بل وأن نلعق من طبق الطعام.
فقد أخرج مسلم وأبو داوود والترمذي: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعامًا لعق أصابعه الثلاث” وروي أيضًا: “وأمرنا أن نسلت القصعة” (السلت: النحت والإزالة). إنها بعض الآداب النبوية الكريمة التي تكاد تكون غائبة عن وعينا، بل قد يستهجنها البعض منا من المضبوعين والمبهورين بالإتيكيت الغربي حتى النخاع وهو لا يدري أن ذاك الإتيكيت مرده وأصله إسلامي صرف.
فكيف بنا لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحال من اللامبالاة وإهمال النعمة بهذا الشكل، إن نظرة واحدة إلى حاوية القمامة كافية للإقناع بغياب الوعي الإسلامي ومؤكدة أن قدرًا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مغيب ولا يجد من يقدره، فضلًا عن تأكيدها غياب الحس الاجتماعي الذي يستشعر ملايين البشر المحتاجين إلى اللقمة.
إن إخوتنا المنكوبين في فلسطين وفي العراق وفي سوريا وفي كل بقعة من بقاع الأرض التي يستباح فيها دم المسلمين وتغتصب أرضهم وتهدم البيوت فوق رؤوسهم، لهم أولى أن نضع اللقمة في أفواههم قبل أن نضعها في أفواهنا، ولا ينام لنا جفن حتى نطمئن على إطفاء لهيب جوعهم وعطشهم، وإن الأخوة الإسلامية والواجب الانساني لن يغفر لنا تقصيرنا، فالحاويات ليست إلا للقمامة، واللقمة ليس محلها الحاويات، والأفواه الجائعة التي تبحث عن اللقمة أكثر من أن تعد أو تحصى.