دولة أبو مازن
الشيخ رائد صلاح
من هو (أبو مازن) وأين تقع دولته؟ّ! هو (أبو مازن) آخر من بقي في أرضه قبل نكبة فلسطين وبعدها حتى لقي الله تعالى قابضا على تراب الأرض ومفتاح البيت وإبريق الوضوء. ودولته هي (عزبة) تدعى (مكورة)، وهي امتداد لقرية اجزم، المهجرة التي وقعت عليها قبضة التهجير كما وقعت على خمسمائة وثلاثين بلدة فلسطينية، وفي لحظة عين وانتباهتها ثمَّ تحت مظلة الصمت العالمي والوهن العربي تهجر أهل كل هذه البلدات إلى شتات المجهول، وتركوا خلفهم مكرهين، الأرض والبيت والمقدسات والتين والزيتون والصّبار واللوزيات والحمضيات، إلا (أبو مازن) فقد ظلَّ صامدًا صابرا في عزبته مكورة، في لحظات رهيبة خيّم فيها صمت أهل القبور على بيوت قريته اجزم ومسجدها. وهكذا ظلَّ (أبو مازن) لوحده ومرَّت من فوق رأسه عاصفة الترحيل ولم تنجح باقتلاعه كما اقتلعت سائر أهل بلدته اجزم.
وعلى مرأى عينيه وسمع إذنيه بدأت قبضة الهدم تهدم ما حلا لها من بيوت قريته إجزم ومع ذلك ظل (أبو مازن) في بيته الواقع على أطراف إجزم في عزبته مكورة. ثمَّ بدأت قبضة الاستيطان بإدخال وجوه غريبة إلى ما تبقى من بيوت إجزم، وأعلنت هذه الوجوه الغريبة عن فرض سلطتها على هذه البيوت، فاستوطنت فيها وكأنها ملكتها كابرا عن كابر، ومع ذلك ظلَّ (أبو مازن) متجذرا منزرعا شامخا في (مكورة) عالي الجبين، بعلو فاق علو كل جبال إجزم، ثمَّ بدأت قبضة الأذى بانتهاك حرمة مسجد اجزم، فأحالته برهة من الزمن إلى دار- سينما، ثمَّ أسكتت فيه الأذان، وتعطلت فيه الصلاة، وظلَّ منبره بلا خطيب، وظل محرابه بلا إمام، ومع ذلك ظلَّ (أبو مازن) متوكلا على الله تعالى، وحيدا في وجه ذاك السيل الجارف الهادر من الزعازع والأنواء ثمَّ راح يبني مقومات دولة صموده على أرض عزبته (مكورة)، والتي كان عدد سكانها محصورا بشخصه الكريم وصبر زوجه وأولادهم. وكان عدد بيوتها غرفة واحدة فقط.
ويا لفخامة تلك الغرفة اليتيمة، فقد كانت بيت أبو مازن، وكانت مقر حكومة دولة صموده، برئاسته ونيابة زوجه وعضوية أولاده، وكانت تلك الغرفة اليتيمة مطبخه وحمامه، وهناك في زاوية منها وضع خزانة ملابسه وملابس سائر أسرته، وهناك في زاوية ثانية منها وضع سريره الوثير الذي كان ينام عليه صحيحا ثمَّ نام عليه عليلا حتى خرجت روحه إلى بارئها، وهناك في زاوية ثالثة منها وضع مجموعة كراس لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة اتخذها مضافة لمن كان يحلّ عليه ضيفا من سائر أهلنا.
وشاء الله تعالى أن تكون منذ سنين طويلة قد انفجرت عين ماء جارية طوال أيام السنة قرب تلك الغرفة اليتيمة، ولا تزال جارية حتى الآن، ولا تزال تعرف باسم (عين-مكورة) وقد شربتُ منها قبل شهرين فما أعذب ماءها، فكانت تلك العين السلسبيل تزود (أبو مازن) وأسرته بما يحتاجون إليه من ماء لطعامهم وشرابهم وغسلهم ووضوئهم، وسقي دواجنهم ومواشيهم وري أشجارهم، وهكذا ملكت دولة صمود (أبو مازن) كل الماء الذي كانوا يحتاجون إليه، ولم يضطروا في يوم من الأيام أن يمدوا يد الحاجة والاستجداء الى شركة (مكورت).
وحتى يبقى بيت (أبو مازن) مالكا لما يحتاج إليه من فواكه وخضر ولحوم، فقد زرع (أبو مازن) في أرض دولة صموده الليمون والبرتقال والرمان واللوزيات والجرنك والمشمش، وهي أشهر فواكه أرضنا المباركة، وزرع في أرض دولة صموده الملوخية والبندورة والباذنجان والخيار والفليفلة وهي أشهر خضر أرضنا المباركة، فكان يأكل من فواكه وخضر دولته ويبيع ما تبقى منها في بلدة الفرديس، لدرجة أن أسواق بلدة الفرديس كانت تضرب المثل بجودة زرعه، فكان أهل تلك الأسواق يقولون فيما بينهم (ملوخية أبو مازن).
ويوم أن شبَّ أولاده في حضنه وحضن زوجه وأكناف دولته، ويوم أن بلغ مازن سنّ الزّواج تزوج وسكن في غرفة ثانية كانت مجاورة لقصر (أبو مازن). وكان لقصر مازن المكوّن من غرفة واحدة فقط شرفة أرضية تطل على بساتين دولة صمود (أبو مازن)، وتطل على حواكير زيتون (أبو مازن) الرومية التي أصبحت جذورها جوفاء لأن عمرها قد طال وقد تجاوز مئات السنين، ومن حواكير الزيتون كان (أبو مازن) يستخرج الزيت الصافي الذي يكاد أن يضيئ دون أن تمسسه نار، وكانت أسواق بلدة الفرديس تردد بإعجاب وتقول: زيت (أبو مازن) إلى جانب تردادها: ملوخية (أبو مازن)!!
وهل هناك سيادة أعلى من السيادة التي تحلى بها (أبو مازن)، فهو في أرضه يعيش عليها عيش المالك لها، لا عيش المهدد بالترحيل، وهو في أرضه يشرب من مائه الذي يملكه ويملك مصدره، وهو في أرضه يأكل من ثمارها وخضرها، وهو يملك الحرية الكاملة بالتصرف بهذه الأشجار والنباتات، دون رقابة علنية أو سرية عليه. لكل ذلك حسده جيرانه من المجتمع العبري الإسرائيلي، وراودوه عن أرضه ودولة صموده حتى يبيعها، وعرضوا عليه الملايين، التي كانت كفيلة أن تجعل منه غنيا من أغنى أهل الأرض، والتي كانت قادرة على أن تطوق جيد زوجه بقلائد الذهب والزمرد والياقوت، والتي كانت كافية وزيادة حتى يتباهى كل ولد من أولاده بسيارة (شبح) أو سيارة (فراري) تطوف بهم كالبرق الخاطف، ولكن (أبو مازن) أبى واستعصم وقال: (رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه)، وظل على العهد مع أرضه وما حملت، ومع دولة صموده وما أقلت.
ثمَّ ماتت زوجه الأولى، وتزوج الثانية، وازداد عدد أولاده، وظل (أبو مازن) على عهد الوفاء مع قصره المنيف وقصر ابنه الجار مازن، ومع عين مكورة، ومع حواكير الزيتون وأشجار الفواكه والنباتات الطيبة وخم الدجاج وحظيرة المواشي ومع سائر جيرانه من أزهار ونحل وحجل وغزال ونيص وسمان وبويري وأرنب بري، ومع أشجار الزعرور والخروب والبلوط، ومع نباتات الحميض والحويرة والنعناع البري والعلت واللوف. نعم ظلَّ على هذا العهد يصلي فرضه ويصوم رمضان ويفرح للعيد، ويترقب يوم الأرض من العام إلى العام. وذات يوم زرته صباحا في يوم من أيام الأرض فوجدته قد قبض بيده الخشنة على محراثه وكان يوجه فرسه بصوته الجهوري حتى يتقن حراثة أرضه المباركة قطعة قطعة، ثمَّ لمّا اقتربت منه سألته مداعبا: هل تعلم أي يوم هذا؟! فأجابني بنبرة تحدي تزلزت منها الجبال وردّدت صداها الأودية: هذا يوم الأرض!! ثم حاول أن يبقيني عنده مع الإخوة الأخيار الذين كنت معهم حتى نتناول عنده الإفطار بعد مغيب الشمس لأن الشهر كان رمضان إلا أننا اعتذرنا منه، فألحّ علينا وألحّ، ثمَّ أذن لنا بالمغادرة بعد ذلك. ثمَّ ذات يوم زرته مع صحب كرام، فوقف أحدهم على شرفة قصر ابنه مازن ورفع أذان الصلاة ثمَّ صلينا فرضنا على ثرى تلك الشرفة. ثمَّ ذات يوم زرت دولة صموده فوجدت قصره في غاية الفرح والسرور، ثمَّ عرفت أن هذا يوم زواج آخر أولاده وكانت بنتا، وهكذا قد أتمَّ تزويج كل أبنائه وبناته.
ثمَّ مات أبو مازن بعد أن عاش أكثر من تسعين عاما. ولأنه عاش هذه الحياة بهذا الصفاء والنقاء والوفاء التي أذهلت القريب والبعيد، فقد كتب عنه صحفي عبري مقالة ختمها بقوله: (… وهكذا مات أبو مازن ميتة الصّديقين).