نقطة اللاعودة.. سياقات متعددة ونتيجة واحدة
ساهر غزاوي
لا يخفى على أحد أنّ الساحة الإسرائيلية تعيش مشهدًا قاتمًا في ظل الأزمة السياسية التي وصلت إلى طريق مسدود- على الأقل كما تقول صحيفة “هآرتس”- والتي تقول أيضًا إنّ هذه الأزمة تسببت بأضرار لا يمكن إصلاحها، وأصبح الشرخ في إسرائيل أكبر من قدرة الفرقاء على تجاوزه. هذه الأزمة السياسية والصراعات الداخلية وانقسام الإسرائيليين إلى فئات ومجتمعات وطوائف متنوعة ومختلفة، بل ومتخاصمة أحيانًا، تعود لأسباب تاريخية وتحوّلات في السنوات الماضية، وأبرزها أنّ الصراع الديني- العلماني في إسرائيل قد طفا على السطح، ما ينذر بتفكك وانهيار العقد الاجتماعي والبنية الداخلية وتحويل الصراعات الداخلية إلى صدامات عنيفة أو حرب أهلية.
في ظل هذه الأزمة والمشهد القاتم الذي تعيشه إسرائيل في هذه الأيام، يكثر الحديث في الخطاب الإسرائيلي السياسي الرسمي والإعلامي والأكاديمي عن مفهوم “نقطة اللاعودة” في سياقات متعددة ومختلفة إلا أن النتيجة واحدة وتنذر بمستقبل قاتم لإسرائيل، خاصّة وأن هناك قناعات تسود الإسرائيليين بأن مجتمعهم يقع اليوم تحت سيطرة جيل أحفاد المؤسسين، المسمّين “الجيل الثالث”، ما قد يشكل لعنة حقيقية على مستقبل الدولة، وهذه القناعات والأحاديث عن المستقبل الكئيب لإسرائيل، ونهايتها المتوقعة، وخسارتها الوشيكة، باتت تُترجم إلى تصريحات علنية تتردد وتتكرر كثيرًا في الأوساط الإسرائيلية لكبار المفكرين والسياسيين والأكاديميين والأدباء اليهود.
ففي مطلع الشهر الحالي (آذار/مارس 2013)، صرّح الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ قائلًا: “لن أدع دولة إسرائيل تصل إلى نقطة اللاعودة، ولن أدع هذه الكارثة التاريخية تحدث”، وحذر من أن “دولة إسرائيل والمجتمع الإسرائيلي في أزمة داخلية عميقة وخطيرة تهددنا جميعًا، إنها تهدد صمود إسرائيل وتضامنها الداخلي”. لكن يبدو أن الرئيس هرتسوغ نفسه لم يجد بدّا من الهرب من الواقع الذي استسلم له بعد أيام قليلة ليصرح أن إسرائيل وصلت لنقطة اللاعودة إذ يقول: “إما الحل أو الكارثة”.
مفهوم “نقطة اللاعودة” هنا، بحسب اعتراف الرئيس هرتسوغ واعتراف رؤساء الأحزاب الصهيونية المعارضة يائير لابيد وبيني غانتس وأفيغدور ليبرمان وميراف ميخائيلي، تعود أسبابه لاتساع رقعة المظاهرات المنددة بخطة حكومة نتنياهو لإضعاف جهاز القضاء، بحيث يصفون مجموعة القوانين بأنها جنونية، وإقرارها يوصل الجميع إلى نقطة اللاعودة، ويقود إلى تفكك الدولة اليهودية، ونهاية حلم الصهيونية، والتي تهيئ الأجواء لحرب أهلية داخلية من شأنها أن تحقق نبوءة الأجيال في الاقتتال بعضهم مع بعض ومع الأغيار ستشكل علامات الزوال لإسرائيل الثالثة مرة واحدة وإلى الأبد، كما يقولون.
أسباب الوصول إلى نقطة اللاعودة التي ذكرت أعلاه، تُعد من العوامل المهمة والأساسية خاصّة وأنها كما أسلفنا حصيلة مسار تراكمي تفاعلت خلاله مجموعة من العوامل التي شكلت الجذور الأساسية للأزمة التي تشهدها إسرائيل في هذه المرحلة. بَيْدَ أنّ هناك عوامل أخرى لا تقل أهمية عن ما ذكر. ومفهوم “نقطة اللاعودة” يأتي أيضًا في سياق الصراع على أرض فلسطين التي أنشأت عليها إسرائيل كيّانها عام 1948، وبحسب هذا السياق فإن إسرائيل بلغت منذ زمن نقطة اللاعودة، لا سيّما وأن الحديث عن الحلول المطروحة لحل الصراع باتت أفكارا مستحيلة إن كانت فكرة “حل الدولتين” التي كانت تبدو مثل (الحُب من طرف واحد الذي يقابله العداء من الطرف الآخر)، والحديث عن فكرة حل “الدولة الواحدة”، هذا الحل غير القابل للتطبيق، فمن المستحيل أن يتخلى الإسرائيليون عن مشروع الدولة اليهودية ليكونوا جزءًا من دولة متعددة الأعراق حيث يشكل اليهود 50% من السكان على الأكثر. وفي هذا المضمار يقول الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي في مقال له نشر في “هآرتس” عام 2019 بعنوان (يسار أو صهيونية): “لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة واجتزناها.. ومن نقطة اللاعودة هذه لا يوجد طريق للعودة”.
مع كل ما سلف ذكره، فإنه لم يكن ينقص هذا المشهد الإسرائيلي القاتم والأزمة السياسية التي وصلت إلى طريق مسدود ونقطة اللاعودة في سياقاتها المتعددة والمختلفة، إلا أن يأتي واحد من أشقياء هذه الحكومة الإسرائيلية- التي تسير بسرعة جنونية إلى نقطة اللاعودة، بخلاف الحكومات السابقة التي كانت تفضل البقاء في نقطة إدارة الصراع التي بطبيعة الحال لا تصب إلا في المصلحة الإسرائيلية ومصلحة المشروع الصهيوني في المنطقة- وهو المأفون سموتريتش، ليقول تصريحات ينكر فيها الوجود الفلسطيني، من على منصة مزينة بخارطة تضم فلسطين والأردن وأجزاء من سوريا، لتتوالى التنديدات والاستنكارات من جميع المستويات الرسمية والشعبية والدولية وليزداد الوضع تأزمًا وتعقيدًا.
في النهاية، فإن حقيقة مفهوم “نقطة اللاعودة” في تصريح (سموتريتش) تعني العودة إلى أصل الصراع الذي يمتد جذوره إلى أواخر القرن التاسع عشر وحتى قيام الكيان الإسرائيلي في فلسطين عام 1948. وهذا الصراع هو صراع وجودي لا حل له وفقًا لقناعة مترسخة في العقلية الإسرائيلية منذ إنشاء الكيان الإسرائيلي إلى يومنا هذا، وهو ما أعلنه صراحة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في حوار مغلق مع كتّاب إسرائيليين، نظمته صحيفة “هآرتس” في سنة 2014، وذلك عندما سُئل عن الحل الذي يتصوره للصراع في الشرق الأوسط، اعترف نتنياهو بأنه لن يفعل شيئًا لحل هذا النزاع، لأنه نزاع لا يمكن حله.