الصهيونية والمسجد الأقصى المبارك
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
أسعى في هذه المقالات إلى تبيان جدل لعلاقة القائم بين الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية، والمسجد الأقصى المبارك وكيف انتظرت الحركة الصهيونية اللحظة التاريخية التي تمكّنها من تحقيق سيادة على المسجد الأقصى تفضي إلى بناء الهيكل. الحركة الصهيونية سعت منذ تأسيسها إلى تحقيق ثلاثة أهداف، إعادة بناء الشخصية اليهودية بما يتناسب والهيمنة العلمانية الغربية مادة وفكرًا وسلوكًا، وتأسيس كيان سياسي جامع لهذه الجموع التي يتم إعادة بنائها أو/وهيكلتها- كما حدث مع اليهود من الدول العربية- وبناء الهيكل على أرض المسجد الأقصى المُبارك ضمن استثمارها للراهن الدولي والعلاقات الدولية.
لذلك حكمت مسيرة الحركة الصهيونية منظومة من القواعد المتفق عليها ليس داخل الحركة الصهيونية بالضرورة، بل مع القوى العظمى التي راهنت عليها كوريث للإمبراطوريات الأوروبية والإمبراطورية العثمانية التي تآكل وجودها في أوروبا منذ القرن الثامن عشر بخطى متسارعة. القاعدة الأولى كما ذكرت، تُعنى بقيام إسرائيل واستمرار وجودها، وجوهر وجودها متعلق بثنائيات القوة الصهيونية العالمية وتأثيراتها وشبكة علاقاتها الأممية ومع يهود العالم خاصة في الدول الغربية من جهة، والحفاظ على الوجود الداخلي للمشروع الذي باتت تهدده خلافات داخلية أيديولوجية في ظل حكومة الرؤوس الثلاثة سموطريتش، بن غفير، ونتنياهو، فيما القاعدة الثانية، قاعدة أيديولوجية دينية تروم الوصول إلى بناء الهيكل على أرض المسجد الأقصى المبارك.
ولتحقيق هذا الهدف، عملت الحركة الصهيونية عبر مختلف مؤسساتها على الدمج بين السياسي والأيديولوجي العلماني والديني، من خلال معادلة الديموقراطية واليهودية. أمّا القاعدة الثالثة فهي تثبيت وجودها في المحيط العربي عبر سلسلة من الإجراءات الدبلوماسية بدأت فور قيامها وتخلقت فيما بعد في سلسلة من الاتفاقيات مع حكومات عربية. وكانت القاعدة الرابعة التغلغل إلى النخب والطبقات الوسطى في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، وسارعت إلى استغلال الثورة المعلوماتية وثورة أدوات التواصل الاجتماعي والجامعات لتحقيق هذه الغاية. أمّا القاعدة الخامسة، فهي تخليق مستمر لعدو وهمي اسمه الإرهاب، ووصمت فيه الجماعات الإسلامية والحركات الداعية للجمع بين الدين والسياسة وأن الإسلام هو الحل- تمامًا كما تزعم الرأسمالية والماركسية بأنّ نظرياتها وتصوراتها تحمل حلًا لكل معضلة وشأن- وصمتها بالحركات الإرهابية ومن ثم اللاسامية. ومن الملفت للنظر أن الوكالة اليهودية اتهمت أنصار الحاج أمين الحسيني والمجلس الإسلامي بالإرهاب لمجرد دعوته لحماية المسجد الأقصى، وأن هذا تسييس للمقدسات، وهو ما سأتطرق إليه في مقالات قادمة.
إخفاء حقيقة الصراع
منذ اللحظة الأولى للحركة الصهيونية، سعت دائبة إلى إخفاء حقيقة الصراع مع الفلسطينيين بكونه صراعًا دينيًا، بيدَ أنها ثبتت قاعدة داخلية في مسار وصيرورة المشروع الصهيوني، عملت فيه على خلق الإنسان “الطائع” التبعي والموالي الذي يرى بمقولات أولي الأمر ومن يمثلونهم من ساسة وإعلاميين وقانونيين وعسكريين وأمنيين، مقولات مقدسة لا تُناقش، ومن هذه المقولات قداسة القدس وأن المسجد الأقصى حقٌ يهودي خالص، مستغلة النصوص الواردة في أقوال الحاخامات.
تنبهت الحركة الصهيونية مبكرًا إلى معنى تحويل الصراع من صراع قومي مدني إلى صراع ديني، وكانت القوى الاستعمارية وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا، قد عملت على مدننة المناطق التي احتلتها بما في ذلك فلسطين، وأرست منظومات تحقق تخليق طبقة متعلمنة متماهية مع الاحتلال الغربي، ولذلك في السياق الفلسطيني تمَّ العمل على أن يكون الصراع بين الحركة الصهيونية المدعومة عالميًا والحركة الوطنية الفلسطينية (المتعلمنة) صراعًا قوميًا حيث تم تصنيع مفرداته والعمل عليها في مختبرات الإمبراطورية “البريطانية” و”الفرنسية” التي تولت منذ القرن الثامن عشر رعاية الحركة الصهيونية والاهتمام بشأنها ضمن معادلات الصراع الأوروبي الداخلي، ورعت الأفكار العلمانية التي شرعت ببثها في عالمنا العربي والإسلامي في تلكم البلدان التي خضعت للاحتلال الغربي.
سعت القوى الامبريالية منذ أن داست أقدامهم الأرض المقدسة، إلى حرف الصراع عن بعده الديني، علمًا أنَّ ما حرّكها فضلًا عن المصالح العالمية الاقتصادية والسياسية الأبعاد الدينية، ولا تزال تعمل على هذه السياسة الدولة التي أقامتها إلى أن جاءت هذه الحكومة التي خلطت أيديولوجيتها اليمينية القومية بالصهيونية الدينية والحاريديلية الصهيونية والحاريدية الأرثوذكسية، حيث يتضح يومًا بعد يوم أنَّ هذه الحكومة التي أسماها أحد أهم أقطابها بن غفير بحكومة اليمين الكامل، تتخذ من البعدين القومي والديني أساسًا عملياتيًا لسياساتهم المحلية البين يهودية والخارجية مع الشعب الفلسطيني الممتد وجوده على كامل تراب الأرض المقدسة.
السلام الإبراهيمي خطوة نحو بناء الهيكل
الحكومات السابقة (نتنياهو والثنائي بنيت/لبيد) مضت في السلام الإبراهيمي الذي عملت عليه المخابرات الأمريكية في عهد أوباما وأكمله ترامب ويصب في مصلحة إسرائيل بالكامل، وجودًا وتثبيتًا، ويعمل على إنهاء الملف الفلسطيني. وجوهر السلام الإبراهيمي يقوم على إقرارٍ عربي بحق اليهود في المسجد الأقصى المُبارك. ومن أجل ذلك، أقامت الإمارات ما سُمي بالبيت الإبراهيمي، جامعة في مكان واحد تحت لافتة الفعل الحضاري والسلام العالمي، بين الكنيس والكنيسة والمسجد، واعتبر العديد من العلماء الخليجيين منهم الشيخ عثمان الخميس على سبيل المثال لا الحصر، البيت الإبراهيمي وتبنيه كفرًا بواحًا، كما أعاد العديد من علماء السعودية من المحسوبين على الدولة وعلماء خليجيون من المحسوبين على الأنظمة، فتوى الرئاسة والبحوث والإفتاء الصادرة من السعودية قبل 26 عامًا حيث كفّرت الفتوى المعتقدين بالديانة الإبراهيمية التي كان قد روّج لها بعض المفكرين السودانيين في الخرطوم قبل أكثر من ثلاثين عامًا.
وجوهر البيت الإبراهيمي الذي يشكل أنموذجًا صهيونيًا، إنجيليًا، يهوديًا، هو تمييع الديانة الإسلامية في نفوس أبناء المسلمين العرب من قطاعات الشباب والناشئة، تمهيدًا وتهيئة لخلق المسلم “الحضاري المؤمن بالسلام العالمي” وفقًا للمفهوم الغربي المسيحي والصهيوني الديني للسلام المقصود، الذي وفقًا لمخرجاته يتنازل فيه المسلمون طواعية وعن قناعة “كونية أممية ” عن المسجد الأقصى المبارك من أجل السلام والسلامة العالمية، وهو ما يتطلب بالضرورة التخلص من القضية الفلسطينية، وقد ترافق السلام الإبراهيمي والبيت الإبراهيمي الذي سيتم نسخه في ساحات المسجد الأقصى عربيًا وإسرائيليًا، مع ثلاث خطوات عملية على المنطقة وعلى صعيد الاحتلال الإسرائيلي وسلطة رام الله: الاستمرار في استهداف الإسلاميين وتحديدًا الإخوان المسلمين، وكل حركة أو تيار إسلامي يعتقد أن الإسلام دين ودولة رافعًا شعار الإسلام هو الحل.
وقابل هذا المسار المتوحش عربيًا فتح الأبواب للصوفية الحلاجية وللجامية السلفية وللدعاة المتواطئين مع السلطات والنُظم الشمولية والملكية. واحتلاليًا، رافق هذه الخطوة التي بدأت مع الرّدة على الربيع العربي واستمرت إلى هذه اللحظات، ما يسمى بحملة كاسر الأمواج التي مضى على العمل بها عامًا كاملًا- منذ آذار عام 2022- وهدف هذه الحملة خلق إحباط بين الفلسطينيين والقضاء على الشباب الفلسطيني الرافض للاحتلال والتعاون الأمني، وهذه العملية التي لا تزال قائمة يتمّ فيها التعاون الأمني الوثيق بين أطراف عربية وإسرائيلية وفلسطينية، ودخل مؤخرًا على الخط المخابرات الأمريكية. وهدف هذه الحملة تمهيد الطريق وتعبيدها نحو تحقيق السلام الإبراهيمي المُفضي إلى الديانة الإبراهيمية ممثلة بالبيت الإبراهيمي. والخطوة الثالثة وكانت قد بدأت بها حكومة بنيت/ لبيد العمل على تحقيق السيادة الإسرائيلية على منطقة “ج” في الضفة الغربية، كضمان سياسي- أيديولوجي لتحقيق السيطرة الكاملة على مدينة القدس، باعتبار أنّ نجوعها وقراها الغلاف الثالث بعد البلدات المحيطة بالمسجد الأقصى، كرأس العمود والعيساوية وسلوان والبلدة القديمة ومعها أسوار المسجد الأقصى المبارك التي استحالت في السنوات الأخيرة إلى شاشة عملاقة احتفالية في أعياد اليهود السياسية والرسمية.
وتتحكم الحكومة الاحتلالية بهذه المناطق من خلال قوتها الأمنية والحديدية وتواطؤ عربي فلسطيني رسمي، وتخويف مستمر للمدنيين من الفلسطينيين، ومن خلال سياسات القتل والاضطهاد والتنكيل والتجريف السياسي وتجريف المقاومة أي كان نوعها ومستواها سيتم وفقًا للرؤية الاحتلالية الصهيونية، في تحقيق أمنيات السيطرة والسيادة على المسجد، وذلك في سياق تعاون عربي خليجي في الدرجة الأولى ومغربي ومن ثم سعودي كما تظن المؤسسة الاحتلالية وعديد مراكزها البحثية، يتم فيه التقسيم المكاني للمسجد أو التقسيم الزماني/المكاني. وفي كل الأحوال الاحتلال هو الرابح الأكبر في هذه المسألة وفقًا لمعتقداته وقناعاته المرحلية.