12 عامًا على الثورة السورية: تصفية برعاية دولية
يُقدّم الانفتاح التركي على النظام السوري، والذي تبدأ محطة جديدة منه اليوم الأربعاء باجتماع على مستوى نواب وزراء خارجية تركيا والنظام وروسيا وإيران في موسكو، صورة عن التحوّلات التي شهدتها سورية على مدار 12 عامًا من الثورة التي يحيي الشارع السوري المعارض اليوم ذكرى انطلاقتها.
هذه الثورة مرت بالعديد من التحوّلات والمنعرجات السياسية، منذ انطلاقتها، ما تسبب بعدم تحقيق أي من أهدافها الرئيسية، خصوصاً لجهة التحوّل السياسي المنشود، وإطاحة نظام بشار الأسد.
وفي حين أدى الدعم الكبير للنظام، من إيران أولاً، ثم روسيا، وتدخّلهما العسكري، في قلب المعطيات الميدانية، ثم السياسية عبر إطلاق موسكو أكثر من مسار تفاوضي، ومنها مساري أستانة وسوتشي، ما تسبّب بتمييع مفاوضات الحل السياسي، وتمكين النظام من البقاء في السلطة، فإن الأشهر الأخيرة شهدت أبرز التحوّلات، خصوصاً مع بدء أنقرة بدفع روسي مسار المفاوضات مع نظام الأسد، ولو أنها لم تؤد إلى نتيجة واضحة حتى اليوم.
كما جاء الزلزال الذي ضرب تركيا وأجزاء من شمال سورية، في 6 فبراير/ شباط الماضي، ليشكّل فرصة أمام بعض الدول للانفتاح على بشار الأسد من زاوية تقديم المساعدات الإنسانية، مع استغلال تخفيف العقوبات الأوروبية والأميركية نسبياً. غير أن واشنطن والدول الأوروبية بقيت على موقفها برفض أي حل خارج القرارات الدولية ولا سيما القرار 2254.
وبالإضافة إلى التدخلات الخارجية، فإن قوى الثورة والمعارضة، الباحثة عن التغيير، فشلت في إنتاج كيان سياسي صلب يجمعها تحت سقف وهدف واحد، وهو ما أدى إلى بعثرة أوراق هذه القوى التي باتت أسيرة مصالح الدول الفاعلة في الملف السوري.
مسار الثورة السورية
ومن المتوقع أن يحيي آلاف السوريين داخل البلاد وفي المغتربات، اليوم، ذكرى الثورة التي انطلقت بتظاهرة محدودة في 15 مارس/ آذار 2011 داخل سوق الحميدية الشهير في العاصمة دمشق، لتعمّ بعد ذلك البلاد في أكبر موجة ثورية في سياق الربيع العربي. وقابل النظام الثورة بدموية منذ الأيام الأولى لانطلاقتها، مستفيداً من عدم وجود قيادة سياسية واضحة لها، وهو ما أدى على مدى 12 عاماً إلى تعريض البلاد للتقسيم، بعد أن تحوّلت إلى مناطق نفوذ لقوى إقليمية ودولية تتحكّم بالقرار السوري برمته، سواء من جانب النظام أو المعارضة.
في الأشهر الأولى من الثورة، حاولت تنسيقيات محلية أنشأها الشباب القيام بدور سياسي، إلا أنها فشلت في تجميع قواها في كيان سياسي واحد يكون العنوان السياسي للثورة. وبقي الوضع كذلك حتى 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، حين أُسس في إسطنبول التركية “المجلس الوطني السوري”، وضم أغلب القوى السياسية الفاعلة في المشهد السوري.
كما تأسست في دمشق “هيئة التنسيق الوطنية” التي تحوّلت إلى عنوان للمعارضة في الداخل. كذلك، تأسس “المجلس الوطني الكردي” وضم الأحزاب السورية الكردية، ومن ثم بدأت تظهر هيئات وتجمعات سياسية كلها غير منتخبة، وهو ما أدى إلى تشظي المشهد الثوري والمعارض في سورية.
حظي “المجلس الوطني السوري” بدعم إقليمي ودولي واسع، فضلاً عن تأييد شعبي لافت في الداخل الوطني، تجسّد في التظاهرات التي رفعت شعار “المجلس الوطني السوري يمثلني”. ولكن سرعان ما تعثّرت مسيرة المجلس بعد أن وجد نفسه عاجزاً ومثقلاً بالمشكلات البنيوية التي أربكته وحالت دون تمثيله للثورة بالشكل الذي كان يأمله الشارع الثوري الذي كان في ذروة نشاطه في عام 2012 مع اشتداد القمع وبدء ارتكاب النظام للمجازر بحق المتظاهرين.
في 1/11/2012 تأسس في العاصمة القطرية الدوحة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الذي ضم أغلب القوى السياسية الثورية والمعارضة بما فيها “المجلس الوطني”، وانخرط تحت ضغوط إقليمية ودولية، في العملية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة والتي بدأت في 22 يناير/ كانون الثاني 2014 في مدينة جنيف.
ولكن الائتلاف نفسه بدأ يفقد ثقة الشارع السوري المعارض، خصوصاً مع تعثر العملية السياسية بسبب رفض النظام التعامل مع المساعي الأممية لإيجاد حل سياسي. كما لعبت قوى إقليمية ودولية في إضعاف الائتلاف من خلال الدفع باتجاه خروج منصات سياسية أخرى لتنافسه في سياق محاولات لم تنته هدفها “تصفية القضية السورية”.
وفي العاشر من ديسمبر/ كانون الأول 2015 مرت الثورة السورية بمنعرج سياسي آخر، حيث تأسست في العاصمة السعودية الرياض، الهيئة العليا للمفاوضات السورية، عقب اجتماع عقدته أطراف المعارضة في ما بات يعرف بـ”رياض 1″. واعتبرت الهيئة في خطابها السياسي لاحقاً أن “الحل السياسي هو الخيار الإستراتيجي” الأول الذي تعتمده، وفق بيان جنيف 1 والقرارات 2118 و2254، القاضية بإنشاء هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، “لا وجود ولا دور للأسد ومن اقترف الجرائم بحق الشعب السوري دور في المرحلة الانتقالية”.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، جرت توسعة الهيئة في “رياض 2” لـ”توسيع قاعدة التمثيل والقرار”، فضمّت منصتي “موسكو” و”القاهرة”، وهما بلا تأثير على الشارع السوري المعارض، وهو ما أثار جدلاً واسعاً أدى إلى استقالة عشرة من أعضاء الهيئة من بينهم رئيسها رياض حجاب. خاضت الهيئة العديد من جولات التفاوض مع النظام ضمن السياق الأممي الذي يستند على قرارات مجلس الأمن الدولي، ورفضت في عام 2018 المشاركة في مؤتمر رعته روسيا في سوتشي لأنها رأت فيه انحرافاً في مسيرة الثورة السورية، ومحاولة لإعادة تأهيل نظام الأسد.
غياب دور المعارضة
وتشي نظرة على الواقع السياسي لقوى الثورة والمعارضة اليوم أنها باتت أسيرة مصالح دول إقليمية ودولية فاعلة في المشهد، فهامش الحركة والمناورة أمامها محدود بعد أن فقدت أغلب المساحة الجغرافية التي كانت تسيطر عليها في سورية، وانكفأت إلى حيز جغرافي ضيق ومحدود في الشمال السوري يعاني من خلافات فصائلية، في ظل عجز الائتلاف والقوى السياسية عن التحكم بمفاصل القرار في هذا الحيّز الذي يعد منطقة نفوذ لتركيا.
ويرى الباحث في مركز جسور للدراسات رشيد حوراني، أن “الأداء السياسي لقوى الثورة والمعارضة السورية ضعيف جداً لأسباب ذاتية وموضوعية”. ويضيف في تصريحات صحفية أن “هدف الثورة السياسي واضح الرؤية وهو الوصول إلى التغيير المنشود في سورية المتمثل بدولة القانون والمواطنة، إلا أن قوى الثورة والمعارضة الموجودة اليوم تفتقد أدوات التأثير والفعل والحضور”.
ويعرب حوراني عن اعتقاده بأن المعارضة السورية ليست أسيرة مصالح الدول الفاعلة في الملف السوري بـ”المطلق”، مضيفاً: “تعمل القوى المعارضة على مقاطعة مصالحها مع الدول التي ما تزال تدعم الثورة، وتقدّم هذه المعارضة أحياناً على حساب مصلحتها تنازلات مؤقتة، خصوصاً مع الجانب التركي”.
ويتابع: “لكن الشارع السوري الثوري والمعارض يرفض أي تنازل يمس مبادئ الثورة، وهو ما تجلى في التظاهرات الحاشدة أواخر العام الماضي مع بدء أنقرة خطوات تقارب مع الأسد وهو ما دفع مسؤولين أتراك لإطلاق تصريحات تطمئن المعارضة السورية وتؤكد أن أنقرة ليست بصدد التخلي عنها”.
ولعل التحوّل في الموقفين التركي والعربي حيال النظام السوري أخيراً من أبرز المنعرجات السياسية التي مرت بها الثورة السورية، التي باتت اليوم بلا داعم حقيقي يمكن أن يساعدها في التوصل إلى تسوية سياسية تلبي الحد الأدنى من طموحات الشارع السوري المعارض، مع استمرار “التراخي” الغربي في الضغط على النظام السوري، ما خلا العقوبات الاقتصادية التي لم تجبره على تليين موقفه.
ويرى الناشط السياسي معتز ناصر، الموجود في الشمال السوري، أن “الفعاليات الثورية الشعبية في الداخل السوري أثبتت بعد 12 عاماً من الثورة أنها أكثر مرونة ووعياً وإقداماً من المعارضة السياسية”، مضيفاً: “في كل استحقاق كانت المواقف تتمايز أكثر بين الطرفين”. ويعتبر ناصر في تصريحات صحفية أن استمرار انفصال ما يسمى المعارضة السياسية عن القاعدة الشعبية الثورية سيزيد فشلها وتهميشها من قبل الدول الفاعلة بالملف السوري.
ويتوقع ناصر أن وضع المعارضة الحالي “لن يستمر”، مضيفاً: “لحظة استبدال قوى ما يسمى المعارضة السياسية من قبل عموم جمهور الثورة السورية ستأتي، وسيكون الأمر أشبه بفرض أمر واقع على الأرض، تتعاطى معه الدول على أنه متغير ميداني يجب التعامل معه واعتماده ممثلاً شرعياً عن الثورة”.